يا مُتلفي بِسهامِ مُقْلتِه التي ... فيها الدَّواءُ ومِن دَواها الدَّاءُ
أنْتَ الطَّبِيبُ وأنت دائي فاشْفِ ما ... عمِلتْ بقلبي المُقْلةُ الوَطْفاءُ
أمُعنِّفِي في حُبِّ بدرٍ مُشْرِقٍ ... قسَماً لأنتَ العاذِلُ العَوَّاءُ
ومِن الجهالةِ أن تُعنِّف من يَرى ... أنَّ المَلامَ على الهوى إغْرَاء
بي مَن إذا ما لاح فالبدرُ انْجَلَى ... وإذا مَشَى فالصَّعْدَةُ السَّمْراء
إن ضَلَّ قلبُ الصَّبِّ فيه بشَعْرِه ... فلقد هَوَتْهُ الطَّلْعةُ الغَرَّاءُ
يسْعَى بِراحٍ في زُجاجتِه التي ... جَمَدَ النُّضارُ بها وقامَ الْماءُ
أصلُ المِصْراع الأخير للمُتنبِّي، إِّلا أنه غيَّر بعضَ كلماتِهِ، وتصرَّف فيه تصرُّفاً حسناً على سبيل التَّضْمين، وسلَخه عن مَعْناه الأصْلِيّ.
وبيتُ المتنبِّي هو قوله:
وكذا الكريمُ إذا أقام ببَلْدَةٍ ... سال النُّضارُ بها وقام الماءُ
رَاحٌ يطوف بها الحسانُ لذاك قد ... صَلَّتْ لِقِبْلةِ دَنِّها النُّدَماءُ
رَقَّتْ ورَقَّ الكأسُ فامْتزجَا فلمْ ... تُعْلَمْ وحَقِّك أيُّها الصَّهْباءُ
أصلُه قولُ الصَّاحب ابن عَبَّاد:
رَقَّ الزُّجاجُ ورَقَّتِ الخَمْرُ ... وتشابَها فتشاكَلَ الأمْرُ
فكأنَّما خمرٌ ولا قَدَحٌ ... وكأنما قَدَحٌ ولا خمرُ
ومنها في المديح:
قد قُلْتُ فيك بَدِيعَ شِعْرٍ فاق أن ... تَرْقَى إلى حُجُراتِهِ الشُّعَراءُ
ولم يزل صاحبُ الترجمة مُقِيماً بحلب نحوَ العام، يمدح عُيونَ أعيْانها، ويسْتَدِرُّ برِقَّةِ شِعره رقيقَ لُبانِها.
حتى رَمَتْه قِسِيُّ الأقْدار، إلى أرضِ العراق وَجوْبِ هاتيك القِفار.
ونزل منها بدارِ السَّلام بغداد، وتزَوَّدَ من مَقامات الأولياء هناك أَطيبَ زاد.
ثم منها إلى البصرة، وورَد من أميرها ابنِ أفْراسياب أكْرمَ حَضْرة.
فَلِقيهُ بمديح غِبَّ مَدِيح، وروَى عنه خَبر واصِل بن عطاء خَبَرَاً مُسَلْسَلاً صَحيح.
هذا ويدُ التَّأْميل تَعْرُك آذانَ عَزْمتِه، وتُوقِظ نارَ وَقْدٍ في ليل الاْغتراب من هِمَّته.
والمرءُ ما أرْضى أمانِيه ... ينْقاد من لَغَبِ إلى جَهْدِ
وتقول له بلسان الحال: أَحْدِث سَفَراً تُحْدِث رِزْقاً، ولم يَجْنِ ثمرةَ المأمول مَن لم يجْعل ثَنيَّاتِ الفَيافي لها دَرجاتٍ ومَرْقَى.
فطار طَيَرانَ الرُّخِّ إلى رُقْعةِ خُراسان، فحوَّم بالنُّزُولِ على أصْفَهان، التي هي حضرة شاه العجم الآن.
فما أحقَّه بقول الشاعر:
خليفةُ الخِضْرِ من يَرْبَعْ على وطَنٍ ... يوماً فإن ظُهورَ الْعِيسِ أوْطاني
وما أظُنُّ النُّوَى تَرْضَى بما صنعتْ ... حتى تُبَلِّغَني أقْصَى خُراسانِ
وقد شرح ما عاناه من التَّمرُّغ في عَطَن الاغْتراب، وتقسُّم حاله بين الاكْتئاب والاضْطِراب، في قافِيَة قافِيَة، حيث يقول:
لا وبَرْدِ اللَّمَى وحَرِّ الفِراقِ ... ما لقبي من لَسْعةِ البَيْنِ رَاقِي
كيف يخْفى حَلِيفُ بَيْنٍ وشَوْقٍ ... صَيَّر الجَفْنَ دائمَ الإغْراقِ
يا زماناً مع اسْمِنا في خلافٍ ... ومع اسْمٍ نَقيضِه في وِفاقِ
أراد أن اسمَه عليّ، ونقيض اسمه دَنِيّ، والدهر شأنهُ عنادُ الأعالي ووُدُّ الأدانِي، أو أن الدهرَ بَخَس حَقَّ أوِّلِ من تسمَّى بهذا الاسم، أعني الإمامَ عليَّ بن أبي طالب، كرَّم الله وجهَه، وأسْعَدَ أضدادَه من معاوية وغيرِه، فصفَتْ لهم الخلافة، ودرَّت لهم أخْلافُ الإمامة، فيكون مَشْرَباً تشيُّعِيَّاً، كما قال الملك الأفضل نورُالدين عليّ بن السلطان صلاح الدين يوسف، لمَّا وَلِيَ دِمَشْقَ بعد أبيه، فلم تطُلْ مُدَّتُه، ثم حضر إليه عمُّه الملك العادل أبو بكر، وأخوه الملك العزيز عثمان، فأخْرَجاه من مُلْكِه بدِمَشْق إلى صَرْخَد، ثم جَهَّزاه إلى سُمَيسَاط، فكتب إلى الإمام الناصر ببغداد: