للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هذا ارتداد الطَّرف قد فتُّه ... إلى المدى سبقاً فمن أنتما

وقلت على أسلوبهم في المقصورة:

وفدفدٍ طويته بضامرٍ ... يسابق البرق ويسبق القضا

يقبض رامي سهمه عنانه ... خشية أن يصيبه من القفا

وأجرى جواد كان للعرب أعوج، الذي يضرب به المثل، وهو فحل كريم، كان لبني هلال بن عامر، وأنه قيل لصاحبه: ما رأيت من شدة عدوه؟ فقال: ضللت في باديةٍ وأنا راكبه، فرأيت سرباً من القطا يقصد الماء، فتبعته وأنا أغض من لجامه، حتى توافينا الماء دفعة واحدة.

وهذا أغرب شيءٍ يكون؛ فإن القطا شديدة الطيران، وإذا قصد الماء اشتد طيرانه أكثر من غير الماء. وأغرب من ذلك قوله: كنت أغض من لجامه، ولولا ذلك كان يسبق القطا، وهذه مبالغة عظيمة.

وإنما قيل له أعوج؛ لأنه كان صغيراً، وقد جاءتهم غارة فهربوا منها، وطرحوه في خرج، وحملوه لعدم قدرته على متابعتهم لصغره، فاعوج ظهره من ذلك، فقيل له: أعوج.

وللعمري، ويخرج منه اسم نعمان:

لله ما عاينت من روضةٍ ... غنَّاء قد قرَّت بها عيني

حوتان لم يختلفا صورةً ... حفَّا بماءٍ سال من عيني

وله في اسم كريم:

أهواه حلو الدلال ألمى ... قد لذَّ في عشقه العناء

ريقته للرحيق تعزى ... وكم بها للظما دواء

وله في اسم ولي الدين:

ليالٍ بُعَيْد التنائي دنت ... ولانت ولي عزَّ إصلاحها

وعين العدى سكِّرت بالعمى ... وعزَّ ضياها ومفتاحها

ونقل له عن باقي، شاعر الروم، ومميزها بين السادة القروم. أنه نظم أبياتاً تغزل فيها بصبي صبيح، كما هو تهوى الأنفس مليٌّ مليح. فلما وعاها الغلام استبدعها، واستحفظها خزانة لبه واستودعها. وبلغ باقي، أنه قال: قبلتها، ولو ظفرت برجل قائلها قبلتها.

فقال باقي: إن كان نوى جميلاً لأجلي، فليقبل فمي لأنني به نظمتها، لا برجلي.

فنظم العمري هذه المقالة في قوله:

قال لمَّا وصفته ببديع ال ... حسن ظبيٌ يجلُّ عن وصف مثلي

مكِّن العبد أن يقبِّل رِجلاً ... لك كَيْما يجيز فضلاً بفضل

قلت أنصف فدتك روحي فإني ... بفمي قد نظمته لا برِجلي

ومن هذا قول بعضهم:

شافه كفِّي رَشَأٌ ... بقبلةٍ ما شفت

فقلت إذ قبَّلها ... يا ليت كفِّي شفتي

وللشاب مظريف:

ومقبِّلٍ كفِّي وددت بأنه ... أومى إلى شفتيَّ بالتَّقبيل

ولأبي منصور عبد العزيز بن طلحة بن لؤلؤ:

سألته قبلةً فبادر بالتَّق ... بيل مستبشراً إلى قدمي

فقلت مولاي لو أردت بها ... سرور قلبي جعلتها بفمي

فقال كلا للعبد منزلةٌ ... لزومها من حراسة النِّعم

إبراهيم بن محمد الأكرمي الصالحي شاعر الزمان، وشمامة الندمان. ومن إليه يصبو القلب ويحن، وبتذكره ينثني غصن البراعة ويرجحن. ففي أوصافه مشمٌّ للروح عبق، ولطف يروق به كأسه المصطبح والمغتبق. فروض وده غضٌّ، وعرضه الطاهر لا ينال منه ولا يغض.

ومدامة طبعه لم يهنها عصار، وشفوف فكره لم يحتمل منة قصار. مع ماله من أخلاقٍ أقطعها الروض أنفاسه، وشيمٍ ينافس فيها رغبةً ونفاسة.

وأدبٍ دار به رحيق البيان المعتق، وملأ الأكمام بزهر كمامه المفتق. ينشر منه ما هو أزكى من النشر في خلال النواسم، بل أحلى من الريق يترقرق من خلال المباسم.

ومضى عليه زمن يستفيد به العيش رغدا، ويستنجز اليوم ما يوعد به غدا. بين روض من خلقه خلق، ونسيم عرفه بشمائله علق.

جلاليب نشوته صفاق، وأردية شموله وصباه رقاق. لا ينتعش إلا بغرة رقراق الشباب الغرير، ولا يولع إلا بطرة الظل فوق وجه الغدير.

فهنالك بين الغصن والصبا، والقطر وزهر الربى. ولَّد آدابه التي هي عبارة عنها، وأطلع أشعاره التي يستعار الحسن منها.

وقد جمع شعره في ديوان سماه مقام إبراهيم، في الشعر النظيم. أكثره روضيات يغض عنها وشي الخميلة، وغزليات يتستر عندها نقش الغانية الجميلة. وخمريات صيغت مداماً فهي للمسامع مشروبة، وحكميات أبياتها أمثالٌ في الدنيا مضروبة.

<<  <  ج: ص:  >  >>