وخرج العراقي كبعض التجار حتى نزل بساحة عبد الله بن جعفر وبلغه، فأحسن ملتقاه، وأخذ العراقي في التودد إليه، فأرسل إليه بقماش وجواهر وهدايا تزيد على ألف دينار وساله قبولها، فقبلها ونقله إلى خواصه، فزاد في الهدايا إلى أن صار من ندمائه.
فأحضر الجارية، فلما غنت أعجب بها العراقي حتى قال ما ظننت أن في الدنيا مثل هذه، فقال له كم تساوي عندك؟ قال الخلافة. قال عبد الله تقول ذلك لتزين لي شانها وتطلب بذلك سروري. قال يا سيدي أنا تاجر جمع الدرهم إلى الدرهم ولو بعتنيها بعشرة آلاف دينار لأخذتها، قال قد بعتك. قال اشتريت، وقام العراقي فرحاً بما ظفر به، وبات ابن جعفر متفكراً.
فما أصبح إلا وقد جاء العراقي بالمال، فقال له ابن جعفر أنا كنت مازحاً فقال له يا سيدي أنت تعلم أن المزح في البيع جد وهذا لا يليق بمثلك وأنت معروف بالكرم والصلات، فكيف ترضى أن يشيع عنك مثل هذا.
وطال بينهما الكلام إلى أن خدعه، فأخرجها له وهو كالمجنون لا يملك نفسه، فرحل بها من يومه، وأقام ابن جعفر حزيناً باكياً لا يقر له قرار. فلما دخل العراقي الشام وجد يزيد قد مات، فاجتمع بولده معاوية، فقص عليه الخبر وكان صالحاً، فقال له اخرج عني بها فلا ترني وجهك.
فخرج العراقي وكان قد قال للجارية، أنا لست من رجالك، وإنما أخذتك للخليفة فاستترت فلم ير لها وجهاً، فلما قال له معاوية ما قال جاء إليها وقال قد صرت لي، ولكن استتري فإني معيدك إلى مولاك، ثم رحل بها حتى دخل على ابن جعفر.
فلما تلاقيا أخبره بالقصة وأنه لم يكن تاجراً ولكن كان مطلوبه الجارية ليزيد وأنه حين رآه قد هلك لم ير نفسه أهلاً لها، فأعادها إليه ولم ير لها وجهاً ثم أخذها فسلمها إليه، فلما تلاقيا وتعانقا خرا مغشيين ساعه، ثم أدخلها ورفع منزلة العراقي حتى صار أعظم الناس عنده ووهب له المال، وانصرف وأقاما على ما كانا عليه.
وحكى في الأغاني عن ابن أبي مليكة عن جده، قال كان في المدينة رجل ناسك كثير العبادة، فمر يوماً بجارية تغني شعر أعشى بني قيس وهو:
بانت سعاد فأمسى حبلها انقطعا ... واحتلت العود فالحدين فالفرعا
وأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصلعا
فهام حتى كاد أن يخرج عقله وذهب إليه عطاء وطاوس يلومانه في ذلك فأنشد:
يلومني فيك أقوام أجالسهم ... فما أبالي اطار اللوم أم وقعا
وسمع ابن جعفر بذلك فاشترى الجارية بأربعين ألف درهم، ثم احضر الناسك وكان الصوت الذي سمعه من الجارية بتلحين عزة الميلاء فأحضرها وقال له تحب أن تسمع الصوت من صاحبته، قال نعم فأمرها فغنت فسقط مغشياً عليه.
فقال ابن جعفر قد أثمنا فيه الماء الماء، فأتى بالماء فجعل ينضحه حتى أفاق، فقال له اسمعه من الجارية، قال قد رأيت ما وقع لي منه مع من لا أحبها فكيف منها فقلل أتعرفها؟ قال وهل أعرف غيرها، فأخرجها له وسلمها إليه وقال هي لك والله ما رأيتها، فقبل يديه ورجليه وقال قد أعدت عقلي وأحييت نفسي ودعا له، فقال يا غلام احمل معه مثل ثمنها مالاً وثياباً وطيباً يتطيب به فأخذ ذلك وانصرف.
وحكى أنه كان ببغداد رجل من ذوي النعم، فعشق قينه على أوفر ما تكون من الجمال والمعرفة بالغناء والضرب، فأنفق عليها ما معه حتى ضاق حاله، فأشار عليه بعض أصدقائه أن يأذن لها في الغناء عند الناس فإنها مطلوبة ويحصل له بذلك الثروة، فغم لذلك وأخبره أن الموت عنده أسهل من ذلك وقالت له الرأي أن تبيعني فتحصل من ثمني على غناك أو أكون أنا في ثروة فإنه لا يشتري مثلي إلا غني.