للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فحضر بها السوق فاشتراها هاشمي من أهل البصرة بألف وخمسمائة ديناراً فلما قبض المال وتفارقا صار كل منهما على أقبح حال من البكاء، واجتهد في الإقالة، قال فخرجت لا أدري إلى أين أذهب إذ لا يمكنني الدخول إلى البيت وقد أوحش منها، فدخلت مسجداً فجعلت الكيس تحت رأسي، فما انتبهت إلا وشاب قد أخذ الكيس فقمت لأعدو خلفه، فإذا رجلي مشدودة فما تخلصت إلا وقد ذهب فاشتد ما بي فجئت فلففت وجهي وألقيت نفسي في دجلة طالباً أن أغرق، فأنقذني الحاضرون ظانين أني وقعت غلطاً، فلما أخبرتهم بقصتي فمنهم من عنف، ومنهم من رحم، فخلا بي شيخ منهم فوعظني، وقال لست أول من افتقر بعد غنى، أما كفاك ذهاب مالك حتى تذهب نفسك وتصير في النار، فسكن ما بي قليلاً ثم عاودني القلق، فأخبرت صديقاً لي فأعطاني خمسين درهماً، وأشار على أن أخرج من بغداد فعسى أن أجد من أكتب عنده من الأكابر لحسن خطي.

فعزمت على واسط لأن لي بها صديقاً من الكتاب فجئت فرأيت زلالاً مهيأ، فطلبت النزول معهم فقالوا نحملك بدرهمين ولكن الزلال لهاشمي لا يريد معه غريباً فتزيا بزينا كأنك بعض الملاحين فوقع بقلبي أن الزلال للذي اشترى جاريتي فأتسلى حينئذ بصوتها فاشتريت الجبة ولبستها كالملاحين فما وقفت إلا وجاريتي قد أقبلت ومولاها فضربت لها ستارة، فلما انحدروا وجاء العشاء وأكلوا وشربوا، قال للجارية إلى كم هذا الحزن والمدافعة عن الغناء أأنت أول من فارقت مولاها، وأحلوا عليها فأخذت العود وغنت:

بان الخليط بمن علمت فادلجوا ... عمداً لقتلك ثم لم يتحرجوا

وغدت كان على ترائب نحرها ... جمر الغضى في ساعة يتأجج

ثم غلب عليها البكاء ونهضت، فانتفضت وصرعت فنضحوا علي الماء، وأذنوا في أذني فأفقت ولم يزالوا يتلطفون بها حتى عادت فغنت:

فوقفت أنشد بالذين أحبهم ... وكان قلبي بالشفار يقطع

فدخلت دارهم أسائل عنهم ... والدار خالية المنازل بلقع

فشهقت فكادت تتلف وصرعت، فقالوا كيف حملتم مجنوناً اطرحوه، فلحقني أمر عظيم فتصبرت، فلما شارف القوم المنزل في بعض الطريق، أوقفوا الزلال وصعدوا يتنزهون، وخلا الزلال فعمدت على غفلة إلى العود فأصلحته على طريقة معروفة بيني وبينها.

فلما رجعوا وكان الوقت مقمراً تلطفوا بها، وقالوا ترين ما نحن عليه في هذا الوقت فبالله عليك إلا ما انشرحت معنا، فأخذت العود فشهقت شهقة منكرة، ثم قالت هذا العود على طريقة كان يحبها مولاي ويضرب معي، وأنه لمعنا فقالوا لها والله لو كان معنا ما امتنعنا عن عشرته ليخف ما بك، فقالت هو معنا لا محالة، فقالوا للملاحين هل حملتم أحداً، وأشفقت أن ينقطع السؤال.

فقلت أنا يا سيدي فاحضرني، وقال إني والله ما وطئتها وأنا رجل قد وسع الله علي ما أخذتها إلا لسماع غنائها فكن معنا إلى منزلنا فأعتقها، وأزوجك بها ولا أريد منك إلا أن تحضرها كل ليلة وراء ستارة فسمع غناءها وننصرف.

فقلت كيف أمنع ذلك عنك وأنت سبب حياتي، فقال للجارية أرضيت بذلك؟ قالت نعم، وشكرته وزاد سرورها فجعلت تغني وأنا أقترح عليها الأصوات فتضاعف سرور الرجل ودمنا على ذلك حتى بلغنا نهر معقل ليلاً ونحن ثملون، فصعدت حتى ربطت الزلال لقضاء الحاجة، فأخذني النوم ولم يدروا بي حتى سافر، فأفقت بحر الشمس فلم أجدهم، وعدت إلى المحنة، فجاز بي سمارية فنزلت معهم إلى البصرة فدخلتها لم أعرف بها موضعاً ولا أحداً ولم أكن سألت الرجل عن اسمه ولا موضعه.

فرأيت رجلاً من بغداد ماراً فقمت لأشكو إليه حالي، فقال اتبعني فتبعته حتى عرفت موضعهن وجئت به إلى بقال فأخذت منه ورقة لأكتب عن حالي إلى الرجل فاستحسن البقال خطي واسترث حالي وسألني عنه، فلم أشرح له أكثر من أنه لم يبق في يدي شيء، فقال هل لك أن تكتب عندي في كل يوم بنصف درهم وما تحتاج إليه فتضبط مالي، فأجبته فرأى بعد شهر الزيادة بضبطي وحفظي ما كان يسرق له فزاد في إكرامي، فزوجني بعد حول بابنته وأشركني في ماله غير إني في خلال ذلك منكسر النفس حزين القلب.

<<  <   >  >>