للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فلما كان ذات يوم رأيت الناس مجتازين بأنواع الزينة فسألت عن ذلك فقيل عيد الشعانين للنصارى، والناس تخرج للفرجة فوقع في نفسي أن أخرج معهم وأن عسى أن أظفر بأصحابي، فاستأذنت الرجل فأصلح لي ما أحتاج إليه، وخرجت فما وصلت إلا والزلال بعينه في أوساط الناس، فلم أملك إن طرت إليهم فحين رأوني فرحوا بي وقالوا نحن منذ فقدناك ما شككنا أنك غرقت.

فخرجت الجارية من ثيابها وكسرت العود وجزت شعرها. فلما وصلنا البصرة خيرناها فيما تريد، فاختارت لبس السواد وتمثيل قبر تجلس عنده تبكي، ثم أخذوني وأدخلوني عليه وهي على تلك الحالة، فلما رأتني شهقت شهقة ما شككت في موتها.

فلما أفاقت قال مولاها قد وهبتها لك، قلت لا ولكن افعل ما تقدم من العتق والتزويج، ففعل بالشروط السابقة وأعطاني ثياباً وخمسمائة دينار، وقال هذا مقدار ما كنت أجريه عليك إلى اليوم وهو مستمر لك فجئت إلى البقال فأعلمته بذلك وطلقت ابنته وأقمت مع الجارية في أحسن حال.

وحكى أن جعفر بن يحيى حين قدم البصرة مع الرشيد، قال لاسحاق بن إبراهيم قد بلغني أن هنا جارية لم ير مثلها لكن لا يريها مولاها إلا في بيته فاخرج بنا ننظر إليها، فخرجنا والنخاس مستخفين حتى طرقنا الباب فخرج شاب متغير اللون في ثوب خشن فأدخلنا داراً خربة، ففرش لنا حصيراً وأجلسنا ورحل، فخرجت جارية بذلك الثوب إلا أنها تفوق الشمس حسناً وجمالاً فأخذت العود وغنت:

أن يمس حبلك بعد طول تواصل ... خلقاً وبيتك موحشاً مهجورا

فلقد أراني والجديد إلى البلا ... دهراً بوصلك راضياً مسرورا

كنت المنى وأعز من وطىء الحصى ... عندي وكنت بذاك منك جديرا

ثم غلبها البكاء حتى منعها الغناء، فنهضت إلى البيت تعثر في القميص، فسمعنا لهما بكاء وشهيقاً، ثم خفيت أصواتهما حتى ظننا أنهما قبضا، ثم خرج الشاب بالثوب بعينه، وقال أشهدكم أنها حرة وأريد أن تزوجوني بها ففعلوا وغم جعفر لفواتها، وقال له ما حملك على هذا قال حديثي طويل إن شئت حدثتك به، قال قل فقال أنا ابن فلان، وقد كنا من ذوي العلم وهذا يعرف ذلك وأشار إلى النخاس.

ثم قال وكانت هذه الجارية لأمي فنشأت أنا وإياها فادخلنا المكتب فبرعنا في الأدب وأخرجت هي لتعليم الغناء فلم أطق فراقها فصرت معها، فلما برعت فيه طلبت أمي بيعها فأيقنت بالموت فصدقتها الخبر فوهبتها لي وجهزوها لي ودخلت بها بعد أن امتنعت من تزويج بنات الأكابر وأظهرت الزهد والعفة كل ذلك لقصور شهوتي عليها، والناس يظنونه عفة. فأقمنا في أرغد عيش إلى أن مات أبي فلم أحفظ النعمة، فأنفقت الأموال وأكثرت من الهبة وأسرفت حتى لم يبق عندي إلا هذا الثوب أتناوبه أنا وإياها، فأشفقت عليها فقلت لها حين دخل الخليفة الرأي أني أبيعك واعلم أني هالك أثر ذلك، ولكني أختار أن تعيشي بخير.

فلما عرضت عليكم ودخلت إلي، قالت لو كان عندك مني ما عندي منك ما ذكرت بيعاً، فقالت أتحبين أن أعتقك وأتزوج بك وتقيمي معي على هذا الحال. فقالت إن كنت صادقاً في الحب فافعل، فخرجت وفعلت ذلك، فعذره جعفر، قال إسحاق: فلما ركبنا قلت له أنت تبزل الأموال وتغني المحاويج أفلا ترق لهذا؟ قال بلى. ولكن قد غبت لفوت الجارية، ثم التفت إلى النخاس وقال كم صحبت من المال؟ قال ثلثمائة ألف دينار، قال أدفعها إليه وأمره أن يأتيني غداً وفلما أعطاه النخاس المال وأخبره أن الذي كان عنده جعفر وأنه يدعوك إليهن كاد أن يطير فرحاً وأقبل إليه من الغد وقد تزين فأخبر به الخليفة، فأجرى عليه رزقاً وجعله من الكتاب، لما رأى عنده من الظرف والأدب وأمر كلاً من العسكر أن يهاديهه ففعلوا وأقام في النعم.

وأغرب من ذلك، ما حكى أن أندلسياً كان مغرماً بجارية يحبها حباً شديداً وأنه أراد بيعها لوحشة، فلما حقت الصفقة كاد أن يطير عقله فحكم المشتري في ماله فأبى فتشفع عنده بأكابر بلدته فلم يجب، فمضى إلى الملك وأخبره بحاله، فأحضر المشتري وشفع عنده وبذل له مالاً كثيراً فامتنع وادعى محبتها.

<<  <   >  >>