حَدثهمْ أَنه قَالَ يَقُولُونَ إِن الشَّام مليح ودمشق طيبَة وَأَنا قد عزمت أَن أبصرهَا إِلَّا أنني أعمل من حَيْثُ الْعلم والهندسة شَيْئا أكون إِذا سَافَرت إِلَيْهَا يكون بسهولة وَلَا أجد كلفة
قَالُوا فَقُلْنَا لَهُ يَا سيدنَا كَيفَ تعْمل فَقَالَ أما تعلمُونَ أَن الشَّام منخفض عَن أقليم بَغْدَاد وَأَنه مُسْتَقل عَنهُ وَذَلِكَ مَذْكُور فِي علم الْهَيْئَة وارتفاع الْمَوَاضِع بَعْضهَا على بعض
فَقُلْنَا نعم يَا سيدنَا
فَقَالَ اسْتعْمل عجلا من الْخشب ببكر كبار وَيكون فَوْقهم دفوف مبسوطة مسمرة وَاجعَل فَوْقهم جَمِيع مَا احْتَاجَ إِلَيْهِ وَإِذا أطلقنا الْعجل تروح بالبكر بِسُرْعَة فِي الانحدار وَلَا نزال كَذَلِك إِلَى أَن نصل إِلَى دمشق بِأَهْوَن سعي
قَالُوا فتعجبنا من غفلته وجهله
ثمَّ قَالَ وَالله مَا تروحون حَتَّى أضيفكم وتأكلون عِنْدِي طَعَاما
وَصَاح بالفراش فأحضر سفرة فاخرة وَمد عَلَيْهَا رقاقا رفيعا أَبيض لَا يكون شَيْء أحسن مِنْهُ كَأَنَّهُ النصافي البغدادية وهنابا فِيهِ خل وهندبا منقاة جعلهَا حواليه ثمَّ قَالَ بِسم الله كلوا
قَالُوا فأكلنا شَيْئا يَسِيرا إِذْ هُوَ على خلاف عادتنا فِي الْأكل
ثمَّ رفع يَدَيْهِ وَقَالَ يَا غُلَام هَات الطست فَاحْضُرْ طستا مفضضا وَقطعَة صابون رقي كَبِيرَة وسكب عَلَيْهِ المَاء وَهُوَ يغسل يَدَيْهِ فأرغى الصابون ثمَّ مسح بِهِ فَمه وَوَجهه ولحيته حَتَّى بقيت عَيناهُ وَوَجهه ملآن من ذَلِك الصابون وَهُوَ أَبيض وَنظر إِلَيْنَا
قَالُوا وَكَانَ منا فلَان لم يَتَمَالَك أَن ضحك وَزَاد عَلَيْهِ وَقَامَ فَخرج من عِنْده
فَقَالَ مَا لهَذَا فَقُلْنَا لَهُ يَا سيدنَا هَذَا فِيهِ خفَّة عقل وَهَذِه عَادَته
فَقَالَ لَو أَقَامَ عندنَا داويناه فتعجبنا مِنْهُ ثمَّ ودعناه وانصرفنا وَنحن نسْأَل الله الْعَافِيَة مِمَّا كَانَ فِيهِ من الْجَهْل
وَحدث بعض الْعِرَاقِيّين إِن أَمِين الدولة مَاتَ لصديق لَهُ ولد وَكَانَ ذَا أدب وَعلم وَلم يعزه أَمِين الدولة
فَلَمَّا اجْتمع بِهِ بعد ذَلِك عتب عَلَيْهِ إِذْ لم يعزه عَن وَلَده للمودة الَّتِي بَينهمَا
فَقَالَ أَمِين الدولة لَا تلمني فِي هَذَا فوَاللَّه أَنا أَحَق بالتعزية مِنْك إِذْ مَاتَ ولدك وَبَقِي مثل وَلَدي
وَوجدت كلَاما لأمين الدولة فِي ضمن رِسَالَة كتبهَا إِلَى وَلَده وَكَانَ يعرف برضي الدولة أبي نصر قَالَ والتفت بذهنك عَن هَذِه الترهات إِلَى تَحْصِيل مَفْهُوم تتَمَيَّز بِهِ
وَخذ نَفسك من الطَّرِيقَة بِمَا كررت تنبيهك عَلَيْهِ وإرشادك إِلَيْهِ واغتنم الْإِمْكَان واعرف قِيمَته
وتشاغل بشكر الله تَعَالَى عَلَيْهِ
وفز بحظ نَفِيس من الْعلم تثق من نَفسك بِأَن عقلته وملكته لاقرأته ورويته فَإِن بَقِيَّة الحظوظ تتبع هَذَا الْحَظ الْمَذْكُور وَتلْزم صَاحبه
وَمن طلبَهَا من دونه فَأَما أَن لَا يجدهَا وَأما إِن لَا يعْتَمد عَلَيْهَا إِذا وجدهَا وَلَا يَثِق بدوامها
وَأَعُوذ بِاللَّه أَن ترْضى لنَفسك إِلَّا بِمَا يَلِيق بمثلك أَن يتسامى إِلَيْهِ بعلو همته وَشدَّة أنفته وغيرته على نَفسه
وَمِمَّا قد كررت عَلَيْك الوصاة بِهِ أَن لَا تحرص على أَن تَقول شَيْئا لَا يكون مهذبا فِي مَعْنَاهُ وَلَفظه وَيتَعَيَّن عَلَيْك إِيرَاده
فَأَما مُعظم حرصك فتصرفه إِلَى أَن تسمع مَا تستفيده لَا مَا يُلْهِيك ويلذ للإغمار وَأهل الْجَهَالَة نزهك الله