قَالَ القَاضِي أَبُو مَرْوَان الْبَاجِيّ وَكَانَ الْمَنْصُور قد قصد أَن لَا يتْرك شَيْئا من كتب الْمنطق وَالْحكمَة بَاقِيا فِي بِلَاده
وأباد كثيرا مِنْهَا بإحراقها بالنَّار وشدد فِي أَن لَا يبْقى أحد يشْتَغل بِشَيْء مِنْهَا وَأَنه مَتى وجد أحد ينظر فِي هَذَا الْعلم أَو وجد عِنْده شَيْء من الْكتب المصنفة فِيهِ فَإِنَّهُ يلْحقهُ ضَرَر عَظِيم
وَلما شرع فِي ذَلِك جعل أمره مفوضا إِلَى الْحَفِيد أبي بكر بن زهر وَأَنه الَّذِي ينظر إِلَيْهِ
وَأَرَادَ الْخَلِيفَة أَنه إِن كَانَ عِنْد ابْن زهر شَيْء من كتب الْمنطق وَالْحكمَة لم يظْهر وَلَا يُقَال عَنهُ أَنه يشْتَغل بهَا وَلَا يَنَالهُ مَكْرُوه بِسَبَبِهَا وَلما نظر ابْن زهر فِي ذَلِك وامتثل أَمر الْمَنْصُور فِي جمع الْكتب من عِنْد الكتبيين وَغَيرهم وَأَن لَا يبْقى شَيْء مِنْهَا وإهانة المشتغلين بهَا
وَكَانَ بأشبيلية رجل من أعيانها يعادي الْحَفِيد أَبَا بكر بن زهر ويحسده وَعِنْده شَرّ فَعمل محضرا فِي أَن ابْن زهر دَائِم الِاشْتِغَال بِهَذَا الْفَنّ وَالنَّظَر فِيهِ وَأَن عِنْده فِي دَاره شَيْئا كثيرا من كتبه وَجمع فِيهِ شَهَادَات عدَّة وَبعث بِهِ إِلَى الْمَنْصُور وَكَانَ الْمَنْصُور حِينَئِذٍ فِي حصن الْفَرح وَهُوَ مَوضِع بناه قَرِيبا من أشبيلية على ميلين مِنْهَا صَحِيح الْهَوَاء بِحَيْثُ بقيت الْحِنْطَة فِي ثَمَانِينَ سنة لم تَتَغَيَّر لصِحَّته
وَكَانَ أَبُو بكر بن زهر هُوَ الَّذِي أَشَارَ على الْمَنْصُور أَن يبنيه فِي ذَلِك الْموضع وَيُقِيم فِيهِ فِي بعض الْأَوْقَات
فَلَمَّا كَانَ الْمَنْصُور بِهِ وَقد أَتَاهُ الْمحْضر نظره ثمَّ أَمر بِأَن يقبض على الَّذِي عمله وَأَن يودع السجْن فَفعل بِهِ ذَلِك
وَانْهَزَمَ جَمِيع الشُّهُود الَّذين وضعُوا خطوطهم فِيهِ
ثمَّ قَالَ الْمَنْصُور إِنَّنِي لم أول ابْن زهر فِي هَذَا إِلَّا حَتَّى لَا ينْسبهُ أحد إِلَى شَيْء مِنْهُ وَلَا يُقَال عَنهُ
وَوَاللَّه لَو أَن جَمِيع أهل الأندلس وقفُوا قدامي وشهدوا على ابْن زهر بِمَا فِي هَذَا الْمحْضر لم أقبل قَوْلهم لما أعرفهُ فِي ابْن زهر من متانة دينه وعقله
وحَدثني أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَحْمد الإشبيلي قَالَ كَانَ الْحَفِيد أَبُو بكر بن زهر قد أَتَى إِلَيْهِ من الطّلبَة اثْنَان ليشتغلا عَلَيْهِ بصناعة الطِّبّ فترددا إِلَيْهِ ولازماه مُدَّة وقرآ عَلَيْهِ شَيْئا من كتب الطِّبّ
ثمَّ أَنَّهُمَا أَتَيَاهُ يَوْمًا وبيد أَحدهمَا كتاب صَغِير فِي الْمنطق وَكَانَ يحضر مَعَهُمَا أَبُو الْحُسَيْن الْمَعْرُوف بالمصدوم وَكَانَ غرضهم أَن يشتغلوا فِيهِ فَلَمَّا نظر ابْن زهر إِلَى ذَلِك الْكتاب قَالَ مَا هَذَا ثمَّ أَخذه ينظر فِيهِ فَلَمَّا وجده فِي علم الْمنطق رمى بِهِ نَاحيَة ثمَّ نَهَضَ إِلَيْهِم حافيا ليضربهم وانهزموا قدامه وتبعهم يعدو على حَالَته تِلْكَ وَهُوَ يُبَالغ فِي شتمهم وهم يتعادون قدامه إِلَى أَن رَجَعَ عَنْهُم عَن مَسَافَة بعيدَة فبقوا منقطعين عَنهُ أَيَّامًا لَا يجسرون أَن يَأْتُوا إِلَيْهِ
ثمَّ أَنهم توسلوا إِلَى أَن حَضَرُوا عِنْده وَاعْتَذَرُوا بِأَن ذَلِك الْكتاب لم يكن لَهُم وَلَا لَهُم فِيهِ غَرَض أصلا وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا رَأَوْهُ مَعَ حدث فِي الطَّرِيق وهم قاصدون إِلَيْهِ فهزأوا بِصَاحِبِهِ وعبثوا بِهِ وَأخذُوا مِنْهُ الْكتاب قهرا وَبَقِي مَعَهم ودخلوا إِلَيْهِ وهم ساهمون عَنهُ
فتخادع لَهُم وَقبل معذرتهم واستمروا فِي قراءتهم عَلَيْهِ صناعَة الطِّبّ
وَلما كَانَ بعد مديدة أَمرهم أَن يجيدوا حفظ الْقُرْآن وَأَن يشتغلوا بِقِرَاءَة التَّفْسِير والْحَدِيث وَالْفِقْه وَأَن يواظبوا على مُرَاعَاة الْأُمُور الشَّرْعِيَّة والاقتداء بهَا وَلَا يخلوا بِشَيْء من ذَلِك
فَلَمَّا امتثلوا أمره وأتقنوا معرفَة مَا أَشَارَ بِهِ عَلَيْهِم وَصَارَت لَهُم مُرَاعَاة الْأُمُور الشَّرْعِيَّة سجية وَعَادَة قد ألفوها كَانُوا يَوْمًا عِنْده وَإِذا بِهِ قد أخرج لَهُم الْكتاب الَّذِي كَانَ رَآهُ مَعَهم فِي الْمنطق وَقَالَ لَهُم الْآن