يكون سَببا مُمَيّزا لصناعة الْبُرْهَان من هَذِه الصناعات الْأَرْبَع وفصلا فاصلا لَهَا من جِنْسهَا ثمَّ أَخذ بعد ذَلِك فِي شرح الْأُمُور الطبيعية
فَبَدَأَ فِي ذَلِك بكتابه فِي السماع الطبيعي فقرر فِيهِ الْأُمُور الْمَعْلُومَة بالطبع الَّتِي لَا تحْتَاج إِلَى برهَان إِنَّمَا يُؤْخَذ من الِاسْتِقْرَار وَالْقِسْمَة والتحليل وَبرهن على بطلَان الاعتراضات فِيهَا وكشف عَن أغلاط من شكّ فِي شَيْء مِنْهَا وَكَانَ مُجمل كَلَامه فِي ذَلِك على سِتَّة أُمُور المبادئ الكونية والطبيعية وَالْمَكَان والخلاء وَمَا لَا نِهَايَة لَهُ وَالزَّمَان وَالْحَرَكَة والمحرك الأول
ثمَّ أتبع ذَلِك بكتابه فِي الْكَوْن وَالْفساد فأوضح فِيهِ قبُول الْعَالم الأرضي الْكَوْن وَالْفساد
ثمَّ تلاه بكتابه فِي الْآثَار والعلوية وَهِي الَّتِي تعرض فِي الجو كالسحاب والضباب والرياح والأمطار والرعد والبرق الصَّوَاعِق وَسَائِر مَا يكون من أَنْوَاع ذَلِك
وَذكر فِي آخِره أُمُور المعدنيات وَأَسْبَاب كَونهَا
ثمَّ أتبعه بكتابه فِي النَّبَات وَالْحَيَوَان فَذكر ضروب النَّبَات وَالْحَيَوَان وطبائعهما وفصولهما وأنواعهما وخواصهما وأعراضهما
ثمَّ أتبع ذَلِك بكتابه فِي السَّمَاء والعالم فأبان عَن طبيعة الْعَالم وذاتيته واتصال الْقُوَّة الإلهية بِهِ
ثمَّ وَالَاهُ بكتابه فِي النَّفس فَتكلم على رَأْيه فِي النَّفس وَنقض آراء جَمِيع من قَالَ فِيهَا قولا يُخَالف قَوْله واعتقد فِي ذاتيتها اعتقادا غير اعْتِقَاده وَقسمهَا إِلَى الغاذية والحاسة والعاقلة
وَذكر أَحْوَال الغاذية وَشرح أُمُور الْحَواس وَفصل أَسبَاب الْعقل
فَذكر من ذَلِك مَا كشف كل مَسْتُور وأوضح عَن كل خَفِي
ثمَّ ختم جَمِيع ذَلِك بكتابه فِيمَا بعد الطبيعة وَهُوَ كِتَابه فِي الإلهيات فَبين فِيهِ أَن الْإِلَه وَاحِد وَإنَّهُ حَكِيم لَا يجهل وقادر لَا يعجز وجواد لَا يبخل
فأحكم الْأُصُول الَّتِي فِيهَا يسْلك إِلَى الْحق فيدرك طَبِيعَته وجوهره وتوحيد ذَاته وماهيته
فَلَمَّا تبينت ذَلِك أفرغت وسعي فِي طلب عُلُوم الفلسفة وَهِي ثَلَاثَة عُلُوم رياضية وطبيعية وإلهية
فتعلقت من هَذِه الْأُمُور الثَّلَاثَة بالأصول والمبادئ الَّتِي ملكت بهَا فروعها وتوقلت بأحكامها من حَيْثُ انخفاضها وعلوها
ثمَّ إِنِّي رَأَيْت طبيعة الْإِنْسَان قَابِلَة للْفَسَاد متهيئة إِلَى الفناء والنفاد
وَأَنه من حِدة الشَّبَاب وعنفوان الحداثة تملك على فكرة طَاعَة التَّصَوُّر لهَذِهِ الْأُصُول فَإِذا صَار إِلَى سنّ الشيخوخة وَأَوَان الْهَرم قصرت طَبِيعَته وعجزت قوته الناطقة مَعَ إخلاق آلتها وفسادها عَن الْقيام بِمَا كَانَت تقوم بِهِ من ذَلِك
فشرحت ولخصت واختصرت من هَذِه الْأُصُول الثَّلَاثَة مَا أحَاط فكري بتصوره ووقف تمييزي على تدبره
وصنفت من فروعها مَا جرى مجْرى الْإِيضَاح والإفصاح عَن غوامض هَذِه الْأُمُور الثَّلَاثَة إِلَى وَقت قولي هَذَا وَهُوَ ذُو الْحجَّة سنة سبع عشرَة وَأَرْبَعمِائَة لهجرة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَأَنا مَا مدت لي الْحَيَاة باذل جهدي ومستفرغ قوتي فِي مثل ذَلِك توخيا بِهِ أمورا ثَلَاثَة أَحدهَا إِفَادَة من يطْلب الْحق ويؤثره فِي حَياتِي وَبعد وفاتي وَالْآخر إِنِّي جعلت ذَلِك ارتياضا لي بِهَذِهِ الْأُمُور فِي إِثْبَات مَا تصَوره وأتقنه فكري من تِلْكَ الْعُلُوم وَالثَّالِث إِنِّي صيرته ذخيرة وعدة لزمان الشيخوخة وَأَوَان الْهَرم
فَكنت فِي ذَلِك كَمَا قَالَ جالينوس فِي الْمقَالة السَّابِعَة من كِتَابه فِي حِيلَة الْبُرْء إِنَّمَا قصدت وأقصد فِي وضع مَا وَضعته وأضعه من الْكتب إِلَى أحد أَمريْن إِمَّا إِلَى نفع رجل أفيده إِيَّاه وَإِمَّا أَن أتعجل أَنا فِي ذَلِك رياضة أروض بهَا نَفسِي فِي وَقت وضعي إِيَّاه وأجعله