فَاضلا فِي صناعَة الطِّبّ أَقَامَ بِدِمَشْق مُدَّة وَلم يحصل لَهُ بهَا مَا يقوم بكفايته وَسمع بالديار المصرية وأنعام الْخُلَفَاء فِيهَا وكرمهم وإحسانهم إِلَى من يقصدهم وَلَا سِيمَا من أَرْبَاب الْعلم وَالْفضل وتاقت نَفسه إِلَى السّفر وتوجهت أمانيه إِلَى الديار المصرية
فَلَمَّا وَصلهَا أَقَامَ بهَا أَيَّامًا وَكَانَ قد سمع بالشيخ السديد طَبِيب الْخُلَفَاء وَمَا هُوَ عَلَيْهِ من الأفضال وسعة الْحَال والأخلاق الجميلة والمروءة العزيزة
فَمشى إِلَى دَاره وَسلم عَلَيْهِ وعرفه بصناعته وَأَنه إِنَّمَا أَتَى قَاصِدا إِلَيْهِ ومفوضا كل أُمُوره لَدَيْهِ ومغترفا من بَحر علمه ومعترفا بِأَن مهما يصله من جِهَة الْخُلَفَاء فَإِنَّمَا هُوَ من بره وَيكون معتدا لَهُ بذلك فِي سَائِر عمره
فَتَلقاهُ الشَّيْخ السديد بِمَا يَلِيق بِمثلِهِ وأكرمه غَايَة الْإِكْرَام
ثمَّ بعد ذَلِك قَالَ لَهُ وَكم تُؤثر أَن يُطلق لَك من الجامكية إِذا كنت مُقيما بِالْقَاهِرَةِ فَقَالَ يَا مَوْلَانَا يَكْفِينِي مهما ترَاهُ وَمَا تَأمر بِهِ
فَقَالَ لَهُ قل بِالْجُمْلَةِ
فَقَالَ وَالله أَن أطلق لي فِي كل شهر من الْجَارِي عشرَة دَنَانِير مصرية فَإِنِّي أَرَاهَا خيرا كثيرا
فَقَالَ لَهُ لَا هَذَا الْقدر مَا يقوم بكفايتك على مَا يَنْبَغِي وَأَنا أَقُول لوكيلي إِن يوصلك فِي كل شهر خَمْسَة عشر دِينَارا مصرية وقاعة قريبَة مني تسكنها وَهِي بِجَمِيعِ فرشها وطرحها وَجَارِيَة حسناء تكون لَك
ثمَّ أخرج لَهُ بعد ذَلِك خلعة فاخرة ألبسهُ إِيَّاهَا وَأمر الْغُلَام أَن يَأْتِي لَهُ ببغلة من أَجود دوابه فَقَدمهَا لَهُ ثمَّ قَالَ لَهُ هَذَا الْجَارِي يصلك فِي كل شهر وَجَمِيع مَا تحْتَاج إِلَيْهِ من الْكتب وَغَيرهَا فَهُوَ يَأْتِيك على مَا تختاره وَأُرِيد مِنْك أننا لَا نخلو من الِاجْتِمَاع والأنس وَإنَّك لَا تتطاول إِلَى شَيْء آخر من جِهَة الْخُلَفَاء وَلَا تَتَرَدَّد إِلَى أحد من أَرْبَاب الدولة
فَقبل ذَلِك مِنْهُ وَلم يزل ابْن النقاش مُقيما فِي الْقَاهِرَة على هَذِه الْحَال إِلَى أَن رَجَعَ إِلَى الشَّام وَأقَام بِدِمَشْق إِلَى حِين وَفَاته
أَقُول وَكَانَ الشَّيْخ السديد قد قَرَأَ صناعَة الطِّبّ واشتغل على أبي نصر عدنان بن الْعين زَرْبِي
وَلم يزل الشَّيْخ السديد مبجلا عِنْد الْخُلَفَاء وأحواله تنمى وحرمته عِنْدهم تتزايد من حِين الْآمِر بِأَحْكَام الله إِلَى آخر أَيَّام العاضد بِاللَّه وَذَلِكَ أَنه كَانَ وَهُوَ صبي مَعَ أَبِيه فِي خدمَة الْآمِر بِأَحْكَام الله وَهُوَ أَبُو الْمَنْصُور بن أبي الْقَاسِم أَحْمد المستعلي بِاللَّه بن الْمُسْتَنْصر إِلَى أَن اسْتشْهد الْآمِر فِي يَوْم الثُّلَاثَاء رَابِع ذِي الْقعدَة من سنة أَربع وَعشْرين وَخَمْسمِائة بالجزيرة
وَكَانَت مُدَّة خِلَافَته ثَمَانِيَة وَعشْرين سنة وَتِسْعَة أشهر وَأَيَّام
ثمَّ بَقِي فِي خدمَة الْحَافِظ لدين الله وَهُوَ أَبُو الميمون عبد الْمجِيد بن الْأَمِير أبي الْقَاسِم مُحَمَّد بن الإِمَام الْمُسْتَنْصر بِاللَّه وبويع لِلْحَافِظِ يَوْم استشهاد الْآمِر وَلم يزل فِي خدمَة الْحَافِظ إِلَى أَن انْتقل فِي الْيَوْم الْخَامِس من جُمَادَى الْآخِرَة من سنة أَربع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة
ثمَّ خدم بعده للظافر بِأَمْر الله وَهُوَ أَبُو مَنْصُور إِسْمَاعِيل بن الْحَافِظ لدين الله وبويع لَهُ فِي لَيْلَة صباحها الْخَامِس من جُمَادَى الْآخِرَة سنة أَربع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة عِنْد انْتِقَال وَالِده وَلم يزل فِي خدمته إِلَى أَن اسْتشْهد الظافر بِأَمْر الله وَذَلِكَ فِي التَّاسِع وَالْعِشْرين من الْمحرم سنة تسع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة
ثمَّ بعد ذَلِك خدم الفائز بنصر الله وَهُوَ أَبُو الْقَاسِم عِيسَى بن الظافر بِأَمْر الله وبويع لَهُ فِي الثَّلَاثِينَ من الْمحرم سنة تسع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة وَلم يزل فِي خدمته إِلَى أَن انْتقل الفائز بنصر الله فِي