من سيف الدولة من جملَة مَا ينعم بِهِ عَلَيْهِ سوى أَرْبَعَة دَرَاهِم فضَّة فِي الْيَوْم يُخرجهَا فِيمَا يَحْتَاجهُ من ضَرُورِيّ عيشه
وَلم يكن معتنيا بهيئة وَلَا منزل وَلَا مكسب
وَيذكر أَنه كَانَ يتغذى بِمَاء قُلُوب الحملان مَعَ الْخمر الريحاني فَقَط
وَيذكر أَنه كَانَ فِي أول أمره قَاضِيا فَلَمَّا شعر بالمعارف نبذ ذَلِك وَأَقْبل بكليته على تعملها وَلم يسكن إِلَى نَحْو من أُمُور الدُّنْيَا الْبَتَّةَ
وَيذكر أَنه كَانَ يخرج إِلَى الحراس بِاللَّيْلِ من منزله يستضيء بمصابيحهم فِيمَا يَقْرَؤُهُ
وَكَانَ فِي علم صناعَة الموسيقى وعملها قد وصل إِلَى غاياتها وأتقنها إتقانا لَا مزِيد عَلَيْهِ
وَيذكر أَنه صنع آلَة غَرِيبَة يستمع مِنْهَا ألحانا بديعة يُحَرك بهَا الانفعالات
وَيذكر أَن سَبَب قِرَاءَته الْحِكْمَة أَن رجلا أودع عِنْده جملَة من كتب أرسطوطاليس فاتفق أَن نظر فِيهَا فَوَافَقت مِنْهُ قبولا وتحرك إِلَى قرَاءَتهَا وَلم يزل إِلَى أَن أتقن فهمها وَصَارَ فيلسوفا بِالْحَقِيقَةِ
ونقلت من كَلَام لأبي نصر الفارابي فِي معنى اسْم الفلسفة قَالَ اسْم الفلسفة يوناني وَهُوَ دخيل فِي الْعَرَبيَّة وَهُوَ على مَذْهَب لسانهم فيلسوفا وَمَعْنَاهُ إِيثَار الْحِكْمَة
وَهُوَ فِي لسانهم مركب من فيلا وَمن سوفيا ففيلا الإيثار وسوفيا الْحِكْمَة
والفيلسوف مُشْتَقّ من الفلسفة وَهُوَ على مَذْهَب لسانهم فيلسوفوس
فَإِن هَذَا التَّغْيِير هُوَ تَغْيِير كثير من الاشتقاقات عِنْدهم وَمَعْنَاهُ الْمُؤثر للحكمة
والمؤثر للحكمة عِنْدهم هُوَ الَّذِي يَجْعَل الوكد من حَيَاته وغرضه من عمره الْحِكْمَة
وَحكى أَبُو نصر الفارابي فِي ظُهُور الفلسفة مَا هَذَا نَصه قَالَ إِن أَمر الفلسفة اشْتهر فِي أَيَّام مُلُوك اليونانيين وَبعد وَفَاة أرسطوطاليس بالإسكندرية إِلَى آخر أَيَّام الْمَرْأَة
وَأَنه لما توفّي بَقِي التَّعْلِيم بِحَالهِ فِيهَا إِلَى أَن ملك ثَلَاثَة عشر ملكا وتوالى فِي مُدَّة ملكهم من معلمي الفلسفة اثْنَا عشر معلما أحدهم الْمَعْرُوف بأندرونيقوس
وَكَانَ آخر هَؤُلَاءِ الْمُلُوك الْمَرْأَة فغلبها أوغسطس الْملك من أهل رُومِية وقتلها واستحوذ على الْملك
فَلَمَّا اسْتَقر لَهُ نظر فِي خَزَائِن الْكتب وصنعها فَوجدَ فِيهَا نسخا لكتب أرسطوطاليس قد نسخت فِي أَيَّامه وَأَيَّام ثاوفرسطس وَوجد المعلمين والفلاسفة قد عمِلُوا كتبا فِي الْمعَانِي الَّتِي عمل فِيهَا أرسطو
فَأمر أَن تنسخ تِلْكَ الْكتب الَّتِي كَانَت نسخت فِي أَيَّام أرسطو وتلاميذه وَأَن يكون التَّعْلِيم مِنْهَا وَأَن ينْصَرف عَن الْبَاقِي
وَحكم أندرونيقوس فِي تَدْبِير ذَلِك وَأمره أَن ينْسَخ نسخا يحملهَا مَعَه إِلَى رُومِية ونسخا يبقيها فِي مَوضِع التَّعْلِيم بالإسكندرية وَأمره أَن يسْتَخْلف معلما يقوم مقَامه بالإسكندرية ويسير مَعَه إِلَى رُومِية
فَصَارَ التَّعْلِيم فِي موضِعين وَجرى الْأَمر على ذَلِك إِلَى أَن جَاءَت النَّصْرَانِيَّة فَبَطل التَّعْلِيم من رُومِية وَبَقِي بالإسكندرية إِلَى أَن نظر ملك النَّصْرَانِيَّة فِي ذَلِك وَاجْتمعت الأساقفة وَتَشَاوَرُوا فِيمَا يتْرك من هَذَا التَّعْلِيم وَمَا يبطل
فَرَأَوْا أَن يعلم من كتب الممطق إِلَى آخر الأشكال الوجودية وَلَا يعلم مَا بعده لأَنهم رَأَوْا أَن فِي ذَلِك ضَرَرا على النَّصْرَانِيَّة وَأَن فِيمَا أطْلقُوا تَعْلِيمه مَا يستعان بِهِ على نصْرَة دينهم فَبَقيَ الظَّاهِر من التَّعْلِيم هَذَا الْمِقْدَار وَمَا ينظر فِيهِ من الْبَاقِي مَسْتُورا إِلَى أَن كَانَ الْإِسْلَام بعده بِمدَّة طَوِيلَة فانتقل التَّعْلِيم من الْإسْكَنْدَريَّة إِلَى أنطاكية وَبَقِي بهَا زَمنا طَويلا إِلَى أَن بَقِي معلم وَاحِد فتعلم مِنْهُ رجلَانِ وخرجا ومعهما الْكتب فَكَانَ أَحدهمَا من أهل حران وَالْآخر من أهل مرو
فَأَما الَّذِي من أهل مرو