وَكنت ذَات يَوْم بِالْمَسْجِدِ وَعِنْدِي جمع كثير فَدخل شيخ رث الثِّيَاب نير الطلعة مَقْبُول الصُّورَة فهابه الْجمع ورفعوه فَوْقهم وَأخذت فِي إتْمَام كَلَامي فَلَمَّا تصرم الْمجْلس جَاءَنِي أَمَام الْمَسْجِد وَقَالَ أتعرف هَذَا الشَّيْخ هَذَا أَبُو الْقَاسِم الشارعي فاعتنقته وَقلت إياك أطلب فَأَخَذته إِلَى منزلي وأكلنا الطَّعَام وتفاوضنا الحَدِيث فَوَجَدته كَمَا تشْتَهي الْأَنْفس وتلذ الْأَعْين سيرته سيرة الْحُكَمَاء الْعُقَلَاء وَكَذَا صورته
وَقد رَضِي من الدُّنْيَا ببرض لَا يتَعَلَّق مِنْهَا بِشَيْء يشْغلهُ عَن طلب الْفَضِيلَة
ثمَّ لازمني فَوَجَدته قيمًا بكتب القدماء وَكتب أبي نَاصِر الفرابي وَلم يكن لي اعْتِقَاد فِي أحد من هَؤُلَاءِ لِأَنِّي كنت أَظن أَن الْحِكْمَة كلهَا حازها ابْن سينا وحشاها كتبه وَإِذا تفاوضنا الحَدِيث أغلبه بِقُوَّة الجدل وَفضل اللسن ويغلبني بِقُوَّة الْحجَّة وَظُهُور المحجة
وَأَنا لَا تلين قناتي لغمزه وَلَا أحيد عَن جادة الْهوى والتعصب برمزه فَصَارَ يحضرني شَيْئا بعد شَيْء من كتب أبي نصر والاسكندر ثامسطيوس يؤنس نفاري ويلين عَرِيكَة شماسي حَتَّى عطفت عَلَيْهِ أقدم رجل وأؤخر أُخْرَى
وشاع أَن صَلَاح الدّين هادن الفرنج وَعَاد إِلَى الْقُدس فقادتني الضَّرُورَة إِلَى التَّوَجُّه إِلَيْهِ فَأخذت من كتب القدماء مَا أمكنني وتوجهت إِلَى الْقُدس فَرَأَيْت ملكا عَظِيما يمْلَأ الْعين روعة والقلوب محبَّة
قَرِيبا بَعيدا سهلا محببا وَأَصْحَابه يتشبهون بِهِ يتسابقون إِلَى الْمَعْرُوف كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورهمْ من غل}
وَأول ليل حَضرته وجدت مَجْلِسا حفلا بِأَهْل الْعلم يتذاكرون فِي أَصْنَاف الْعُلُوم وَهُوَ يحسن الِاسْتِمَاع والمشاركة وَيَأْخُذ فِي كَيْفيَّة بِنَاء الأسوار وحفر الْخَنَادِق ويتفقه فِي ذَلِك وَيَأْتِي بِكُل معنى بديع
وَكَانَ مهتما فِي بِنَاء سور الْقُدس وحفر خندقه يتَوَلَّى ذَلِك بِنَفسِهِ وينقل الْحِجَارَة على عَاتِقه ويتأسى بِهِ جَمِيع النَّاس الْفُقَرَاء والأغنياء والأقوياء والضعفاء حَتَّى الْعِمَاد الْكَاتِب وَالْقَاضِي الْفَاضِل ويركب لذَلِك قبل طُلُوع الشَّمْس إِلَى وَقت الظّهْر وَيَأْتِي دَاره ويمد الطَّعَام ثمَّ يستريح
ويركب الْعَصْر وَيرجع فِي الْمسَاء وَيصرف أَكثر اللَّيْل فِي تَدْبِير مَا يعْمل نَهَارا
فَكتب لي صَلَاح الدّين بِثَلَاثِينَ دِينَارا فِي كل شهر على ديوَان الْجَامِع وَأطلق أَوْلَاده رواتب حَتَّى تقرر لي فِي كل شهر مائَة دِينَار
وَرجعت إِلَى دمشق وأكببت على الِاشْتِغَال وإقراء النَّاس بالجامع
وَكلما أمعنت فِي كتب القدماء ازددت فِيهَا رَغْبَة وَفِي كتب ابْن سينا زهادة وأطلعت على بطلَان الكيمياء وَعرفت حَقِيقَة الْحَال فِي وَضعهَا وَمن وَضعهَا وَتكذب بهَا وَمَا كَانَ قَصده فِي ذَلِك
وخلصت من ضلالين عظيمين موبقين
وتضاعف شكري لله سُبْحَانَهُ على ذَلِك فَإِن أَكثر النَّاس إِنَّمَا هَلَكُوا بكتب ابْن سينا وبالكيمياء
ثمَّ إِن صَلَاح الدّين دخل دمشق وَخرج يودع الْحَاج ثمَّ رَجَعَ فَحم ففصده من لَا خبْرَة عِنْده فخارت الْقُوَّة وَمَات قبل الرَّابِع عشر وَوجد النَّاس عَلَيْهِ شَبِيها بِمَا يجدونه على الْأَنْبِيَاء
وَمَا رَأَيْت ملكا حزن النَّاس بِمَوْتِهِ سواهُ لِأَنَّهُ كَانَ محبوبا يُحِبهُ الْبر والفاجر وَالْمُسلم وَالْكَافِر
ثمَّ تفرق أَوْلَاده