للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

إنسان من غير أب ولا أم وهو آدم - عليه السلام - خلقه من تراب، وركب فيه روحا مؤيدا بالعقل ليقارن في العبادة من جعلت السماء مركزاً له وهم الملائكة، ونفسا متسلطة بالشهوة ليقارن في التناسل من جعلت الأرض مركزا له وهم الحيوانات، ومبدأ خلقه أن الله تعالى لما أراد إبرازه من العدم إلى الوجود، وامتحان إبليس له بالسجود قلبه في سنة أطوار، طور التراب وهو قوله تعالى:) ومن آياته أن خلقكم من تراب إذا أنتم بشر تنتشرون (وطور الحمأ وذلك قوله تعالى:) ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون (، وهذا الكلام يقتضي التقديم والتأخير، لأن الطين لا يكون صلصالا إلا بعد أن يكون حمأ، يقتضي ذلك، قال الزمخشري معناه) من صلصال كائن من حمأ (فيكون صفة لصلصال، وطور الطين اللازب وذلك قوله تعالى:) فاستفتهم أهم أشد خلقا من خلقنا، إنا خلقناهم من طين لازب وطور الصلصال وذلك قوله تعالى:) خلق الإنسان من صلصال كالفخار (، ولما كان في هذا الطور كان إبليس إذا مر به، وقف ليتأمله، وفي رواية يركذه برجله، ويقول: لقد خلقت لأمر عظيم، ويقال كان يدخل من فيه، ويخرج من دبره لأنه كان أجوف، وطور التسوية وهو جعل الخزفة التي هي الصلصال عظما ولحما ودما، وإنما كانت الأطوار على هذا الترتيب لأن التراب الذي هو المبدأ الأول كان متفرق الأجزاء فجبل بالماء حتى اجتمعت أجزاؤه، فصار حمأ مسنونا أي طينا مائعا متغير الرائحة إذ من عادة الماء إذا خالطه شيء غير لونه وطعمه وريحه لا سيما إذا كان ما خالطه ترابا، ثم ترك الحمأ برهة حتى نقصت رطوبته، واشتد فصار طينا وهو المستقر على حالة من الاعتدال يصلح لقبول الصورة، واللازب الذي يلصق بما لامسه، وهو اللازم أيضا، وفي هذا الطور كان تخطيط الصورة وتشكيلها، وتقدير أعضائها، وتفصيلها، ثم ترك الطين حينا صار صلصالا كالفخار، وهو الطين الذي أصبح خزفا وترك حتى جف وسمعت له صلصلة، أي صوت كما يسمع للفخار إذا طبخ بالنار، ثم كانت التسوية وهي إحالة هذه الخزفة إلى جسم حيواني يصلح مسكنا للروح الروحاني وكل طور من هذه الأطوار على ما حكاه ابن منده، أربعون سنة فيكون مجموع كونه حمأ مسنونا إلى أن صار طينا لازبا، إلى أن صار صلصالا كالفخار ثم إلى سوي مائة وعشرون سنة من سني الدنيا، ثم نفخ فيه الروح فصار حيا ناطقا وقال علي عليه السلام، مشيرا إلى ما أودع جسد آدم عليه السلام من أسرار التخليق: جمع سبحانه من حزن الأرض، وسهلها وعذبها، وسبخها تربة شنها بالماء حتى اختلطت، ولاطها بالبلة حتى لزبت فجبل منها صورة ذات احناء ووصول، وأعضاء وفصول، أجمعها حتى استمسكت، وأجلدها حتى صلصلت لوقت معدود وأجل محدود ثم نفخ فيها من روحه فمثلت إنسانا ذا أذهان يتخيلها وفكر يتصرف فيها، وجوارح يختدمها وأدوات تقلبها، فيعرف بها الأذواق والمشام والألوان، والأنواع والأجناس، وبهذا الاعتبار تكون تمام الحكمة الآلهية في تخليق الإنسان أظهر مما في سائر المخلوقات، لأنه خلقه من ضدين متباينين، وجوهرين متغايرين، وذلك أن الروح علوي، والبدن سفلي والعلوي والسفلي ضدان، والروح نوراني، والجسد ظلماني والنور والظلمة ضدان " والروح لطيف والبدن كثيف واللطافة والكثافة ضدان " والروح سماوي والبدن أرضي، والسماوي والأرضي ضدان، ويستظرف قول أبي إسحاق الصابي في معنى هذا:

جملة الإنسان جيفة ... وهيولاه سخيفة

فبماذا ليت شعري ... قبل النفس الشريفة

إنما ذلك فيه ... حكمة الله اللطيفة

وقال آخر:

من أين للطين القيام بنفسه ... أو أين للفخار أن يتكلما

لو لم يكن روح الحياة تمده ... ما كان من أسمائه يتعلما

وقال آخر:

لم يكن الون غير نكر ... سلافة الكرم عرفته

فآدم أصله تراب ... ونفخة الروح شرفته

الضرب الثاني

<<  <   >  >>