وأما النفس: فقد اختلف في ماهيتها فقال قوم هي امتزاج الأركان وقال أفلاطون: جوهر بسيط عقلي يتحرك من ذاته بعدد مؤلف، وقال فيثاغورس جوهر نوري ولا خلاف عندهم أن الباري عز وجل جعلها كمالا أولا لجسم طبيعي آلي، وذهب أرسطو إلى أنها ليست متصلة بالبدن اتصال انطباع فيه ولا حلول وإنما اتصلت إلى تدبير وتصرف، وإنها حدثت مع حدوث البدن لا قبله ولا بعده، وذكر على ذلك دلالة استطلناها فتركناها، واستدلوا على وجودها بالتصورات العلمية، والاختبارات الإرادية، وقالوا: لا نشك في أن الحيوان يتحرك إلى جبهات مختلفة حركة إرادية، إذ لو كانت حركاته طبيعية أو قسرية لتحرك إلى جهة واحدة لا تختلف البتة، فلما تحرك إلى جهات مختلفة علم أن حركته اختيارية والإنسان مع أنه مختار في حركاته كسائر الحيوان إلا أنه تحرك بمصالح عقلية يراها في عاقبة كل أمر فلا تصدر عنه حركاته إلا إلى غرض وكمال، وهو معرفة عاقبة كل حال، والحيوان وليست حركاته بطبعه على هذا المنهج فيجب أن يميز الإنسان بنفس خاص كما يتميز سائر الحيوان عن سائر الموجودات واستدلوا على أنها جوهر فقالوا: من شرط الجوهر أن يكون قابلا للأضداد من غير تغير وقد رأينا النفس قابلة للشيء وضده، مثل العدل والجور، والذكاء والبلادة والعلم والجهل، والبر والفجور، والشجاعة والجبن، إلى غير ذلك من الأضداد التي لا يحصرها التعداد، واستدلوا أيضا فقالوا يمتنع أن يكون المدبر لهذا الجسم جسما لأن الجسم لا يقبل صورة أخرى من جنس صورته الأولى إلا من بعد مفارقة الصورة الأولى البتة، مثاله أن الجسم إذا قبل صورة وشكلا كالتثليث وليس يقبل شكلا آخر من التربيع والتدوير إلا بعد مفارقة الشكل الأول، وكذا إذا قبل نقشا ومثالا، ونحن نجد النفس تقبل الصور كلها على التمام والنظام من غير نقص ولا عجز، وهذه الخاصية ضد خاصية الجسم، ولهذا يزداد الإنسان بصيرة كلما نظر وبحث وارتأى وكشف،) ويمتنع أن يكون المدبر أيضا للبدن عرضا لأن العرض لا يتفق زمانين لقبوله التغير والاستحالة، ولأنه لا يوجد إلا في غيره فهو محمول لا حامل، ويمتنع أن يكون هيولى، فإنها لو كانت، لكانت قابلة للمقدار والعظم، واستدلوا أيضاً على أنها جوهرة بكونها لا يدخل عليها ضد ولا يصل إلى شيء منها بلى، والإنسان إنما يبلى ويفسد ويموت، ويفقد لأنه يفارق النفس، والنفس تفارق ماذا حتى يكون في حكم البدن وشكله، ولو كانت كذلك لكانت تموت وتنفى، فأما الإنسان بها حي وجب أن لا يكون حكمها حكم البدن، ولا يخص على من كان عريا عن الهوى عاشقا للحق، فالفرق بين النفس المحركة للبدن، وبين البدن المتحرك بالنفس فإن البدن معجون من الطين، والنفس تدبره بالقوة الإلهية، ولهذا احتاج إلى الأجناس والمواد والاقتباس والالتماس حتى تكون هذه الحياة الحسية تالفة إلى آخرها من ناحية الجسر، ويكون مبدأ الحياة النفسية موصولا بالأبد بعد الأبد ولو لم تكن النفس لا تموت ولا تفسد بفساد البدن عند المفارقة لما قال الله تعالى مخاطبا لها مفارقتها للبدن) يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية (ولما قال في حق الشهداء) ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين (ولما قال في حق آل فرعون) النار يعرضون عليها غدوا وعشيا (، وهذا منبه على أن النفس بعد مفارقتها للبدن تنتقل أما إلى خير وأما إلى شر، ولهذا قال عليه السلام:) القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار (.
وإلى هذا أشار أبو العلاء المعري بقوله:
خلق الناس للبقاء فظلت ... أمة يحسبونها للنفاد
إنما ينقلون من دار أعما ... ل إلى دار شقوة أو رشاد