(٢) والقول الآخر في معنى {مَا ظَهَرَ مِنْهَا}، قال الإمام ابن كثير - رحمه الله -: « ... وقال الأعمش، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قال: وجهها وكفيها والخاتم. ورُوي عن ابن عمر، وعطاء، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وأبي الشعثاء، والضحاك، وإبراهيم النَّخَعي، وغيرهم نحوُ ذلك. وهذا يحتمل أن يكون تفسيرًا للزينة التي نهين عن إبدائها، كما قال أبو إسحاق السَّبيعي، عن أبي الأحْوَص، عن عبد اللَّه قال في قوله: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ}: الزينة القُرْط والدُّمْلُج والخلخال والقلادة. وفي رواية عنه بهذا الإسناد قال: الزينة زينتان: فزينة لا يراها إلا الزوج: الخاتم والسوار، [وزينة يراها الأجانب، وهي] الظاهر من الثياب. وقال الزهري: [لا يبدين] لهؤلاء الذين سَمَّى اللَّه ممن لا تحلّ له إلا الأسورة والأخمرة والأقرطة من غير حسر، وأما عامة الناس فلا يبدو منها إلا الخواتم. وقال مالك، عن الزهري: {إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} الخاتم والخلخال. ويحتمل أن ابن عباس ومن تابعه أرادوا تفسير ما ظهر منها بالوجه والكفين، وهذا هو المشهور عند الجمهور، ويستأنس له بالحديث الذي رواه أبو داود في سننه [برقم ٤١٠٤]: حدثنا يعقوب بن كعب الإنطاكي ومُؤَمَّل بن الفضل الحَرَّاني قالا حدثنا الوليد، عن سعيد بن بَشِير، عن قتادة، عن خالد بن دُرَيك، عن عائشة، - رضي الله عنها -؛ أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها وقال: «يا أسماء، إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يُرَى منها إلا هذا»، وأشار إلى وجهه وكفيه، لكن قال أبو داود وأبو حاتم الرازي: هذا مرسل؛ خالد بن دُرَيك لم يسمع من عائشة، واللَّه أعلم. [تفسير القرآن العظيم، ١٠/ ٢١٧ - ٢١٨]. ولكن حقق العلماء رحمهم اللَّه تعالى الآثار المنسوبة إلى ابن عباس - رضي الله عنهما - في تفسيره: «إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا: بالوجه والكفين»، وقوله الآخر: بأن ذلك الكحل والخاتم، فبيَّنوا بأنها جاءت بأسانيد ضعيفة لا يعتمد عليها، ويسقط الاستدلال بها، كما بيَّنوا صحة الآثار المسندة إلى ابن مسعود - رضي الله عنه - في تفسيره: «إلا ما ظهر منها» بأن ذلك ظاهر الثياب، والرداء. قال فضيلة الشيخ عبد القادر بن حبيب اللَّه السندي المدرس بمعهد الحرم المكي الشريف أثناء نقده لأثر: «إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا، وأشار إلى وجهه وكفيه». [وليس هناك حديث صحيح مرفوع في هذا المعنى إلا ما جاء عن عبد اللَّه بن عباس - رضي الله عنهما - في أثر أخرجه الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تفسيره [١٨/ ١١٩]، والبيهقي في السنن الكبرى [٢/ ١٨٢ - ١٨٣، ٧/ ٨٦]، قال الإمام ابن جرير الطبري: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا مروان، قال: ثنا مسلم الملائي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ} قال: الكحل والخاتم. قلت: إسناده ضعيف جدًّا، بل هو منكر، قال الإمام الذهبي: مسلم بن كيسان أبو عبد اللَّه الضبي الكوفي الملائي الأعور عن أنس وإبراهيم النخعي، وقال الإمام الحافظ أبو الحجاج المزي [تهذيب الكمال، ٧/ ٦٦٣] في ترجمة مسلم بن كيسان الملائي: روى عن سعيد بن جبير- وهو يروي في هذا الإسناد عن سعيد بن جبير. ثم قال الإمام الذهبي في ترجمته: «عن الثوري ووكيع بن الجراح بن مليح، قال الفلاس: متروك الحديث، وقال أحمد: لا يكتب حديثه، وقال يحيى: ليس بثقة، وقال البخاري: يتكلمون فيه، وقال يحيى أيضَاً: زعموا أنه اختلط، وقال يحيى القطان: حدثني حفص بن غياث قال: قلت لمسلم الملائي: عمن سمعت هذا؟ قال- عن إبراهيم عن علقمة، قلنا: علقمة عمن؟ قال: عن عبد اللَّه، قلنا: عبد اللَّه عمن؟ قال: عن عائشة-، وقال النسائي: متروك الحديث» [ميزان الاعتدال، ٤/ ١٠٦] اهـ، "وقلت: هذا الإسناد ساقط لا يصلح للمتابعات والشواهد، كما لا يخفى على أهل هذا الفن الشريف. وقال الإمام الحافظ البيهقي في السنن الكبرى: «أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو قالا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا أحمد بن عبد الجبار، ثنا حفص بن غياث عن عبد اللَّه بن مسلم بن هرمز، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}، قال: ما في الكف والوجه. [السنن الكبرى، ٢/ ٢٢٥، ٧/ ٨٥٢، وقال الشيخ منصور بن إدريس البهوتي - رحمه الله -: «ولا يبدين زينتها إلا ما ظهر منها» قال ابن عباس وعائشة: وجهها وكفيها، رواه البيهقي، وفيه ضعف، وخلفهما ابن مسعود» اهـ، من كشاف القناع، ١/ ٢٤٣]. قلت: إسناده مظلم ضعيف؛ لضعف راويين هما أحمد بن عبد الجبار العطاردي، قال الإمام الذهبي: أحمد بن عبد الجبار العطاردي روى عن أبي بكر بن عياش وطبقته، ضعفه غير واحد، قال ابن عدي: رأيتهم مجمعين على ضعفه، ولا أرى له حديثاً منكراً، إنما ضعفوه لأنه لم يلق الذين يحدث عنهم، وقال مطين: كان يكذب، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي، وقال ابنه عبد الرحمن: كتبت عنه وأمسكت عن التحديث عنه لما تكلم الناس فيه، وقال ابن عدي: كان ابن عقدة لا يحدث عنه، وذكر أن عنده قِمَطْرًا على أنه كان لا يتورع أن يحدث عن كل أحد، مات سنة ٢٧٢ هـ[ميزان الاعتدال، ١/ ١١٢ - ١١٣]. وقال الحافظ في التقريب: ضعيف [تقريب التهذيب، ١/ ١٩]. وكذا يوجد في هذا الإِسناد- عند الإمام البيهقي- عبد اللَّه بن مسلم بن هرمز المكي عن مجاهد وغيره، قال الحافظ الذهبي: ضعفه ابن معين،. وقال: وكان يرفع أشياء، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي، وقال ابن المديني: كان ضعيفاً (مرتين) عندنا، وقال أيضا: ضعيف، وكذا ضعفه النسائي [ميزان الاعتدال، ٢/ ٥٠٣]، وقال الحافظ في التقريب: ضعيف [تقريب التهذيب، ١/ ٤٥٠]. قلت: هذان الإسنادان ساء حالهما إلى حد بعيد، لا يحتج بهما ولا يكتبان، وهنا أسانيد أخرى لا تقل درجتها في الضعف والنكارة، وبذلك يمكن أن يقال إن هذه النسبة غير صحيحة إلى عبد اللَّه بن عباس - رضي الله عنهما -، ولو صح الإِسناد إليه لما كان فيه حجة عند علماء أهل الحديث، فكيف في هذه الحال؟ وقد صحت الأسانيد إلى ابن عم المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وإلى غيره من الصحابة - رضي الله عنهم - عكس هذا المعنى الذي رواه ابن جرير الطبري في تفسيره، والبيهقي في سننه، وكذا ابن أبي حاتم في تفسيره، وزد على ذلك ما ثبت بأسانيد صحيحة عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كما سيأتي مفصلاً من أمره - صلى الله عليه وسلم - بالحجاب والستر. وإليكم أولاً ما جاء عن بعض الصحابة - رضي الله عنهم -، ومنهم عبد اللَّه بن مسعود - رضي الله عنه -، أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره إذ قال - رحمه الله -: حدثني يونس، قال أخبرنا ابن وهب، قال أخبرني الثوري، عن أبي إسحاق الهمداني، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود قال: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}، قال: الثياب [تفسير الطبري، ١٨/ ١١٩، وقد رواه ابن أبي شيبة، والحاكم، وقال: «هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه»، ووافقه الذهبي في التلخيص. قلت: إسناده في غاية الصحة، وأورد هذا الأثر الإمام ابن كثير في تفسيره [٢/ ٢٨٣]. ثم ساق الإمام ابن جرير الطبري إسناداً آخر بقوله: حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد اللَّه مثله - قلت: إسناده في غاية الصحة. وقال الإمام السيوطي: أخرج ابن جرير الطبري، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قال: الزينة الظاهرة: الوجه والكفان وكحل العينين، ثم قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: فهذا تظهره في بيتها لمن دخل عليها، ثم لا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن» الآية. ثم قال - رضي الله عنه -: «والزينة التي تبديها لهؤلاء: قرطاها، وقلادتها، وسوارها، وأما خلخالها، ومعضدها، ونحرها، وشعرها، فإنها لا تبديه إلا لزوجها» [الدر المنثور، ٥/ ٤٢]، قلت: رواية ابن عباس - رضي الله عنهما - هذه قد اطلعت على إسنادها عند ابن جرير الطبري في تفسيره، ورجالها كلهم ثقات، إلا أنها منقطعة؛ لأن فيها علي بن أبي طلحة المتوفى سنة ١٤٣ هـ، يروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - - ولم يلقه والواسطة بينهما هو مجاهد بن جبر المكي - وهو إمام كبير ثقة ثبت، كما لا يخفى على أحد - وقد احتج بهذه الرواية - أعني رواية على بن أبي طلحة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - - البخاري في الجامع الصحيح [انظر مثلاً: فتح الباري، ٨/ ٢٠٧، ٢٢٨، ٢٦٥]؛ إذ أوردها في مواضع عديدة من كتاب التفسير معلقة، وإن كانت ليست على شرطه في الجامع الصحيح - قال ذلك الحافظ في التهذيب [تهذيب التهذيب، ٧/ ٣٤٠]. وقال الإمام المزي في تهذيب الكمال مشيراً إلى رواية التفسير هذه «في ترجمة علي بن أبي طلحة: هو مرسل عن ابن عباس، وبينهما مجاهد» [تهذيب الكمال، ٥/ ٤٨٠]، واعتمد على هذه الرواية علامة الشام محمد جمال الدين القاسمي في تفسيره [محاسن التأويل، ٤/ ٤٩٠٩]، والإمام القرطبي في تفسيره [الجامع لأحكام القرآن، ٤/ ٢٤٣]، وكذلك الإمام ابن كثير في تفسيره في مواضع عديدة، فكانت قوية ومُحتجّاً بها عند علماء التفسير وغيرهم، وإن ظاهر القرآن والسنة وأثار الصحابة والتابعين تؤيدها، فليعتمد عليها ويستأنس بها». اهـ[الحجاب في الكتاب والسنة للسندي، ص ٢١ - ٢٦].