للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

في الألفاظِ، الَّتي هي رأسُ الفصاحةِ، / وزِمامُ البلاغَةِ؛ فإنَّها وازنَتْ ألفاظَها، وماثلَتْ كلِمَها، وقدَّرتْ فِقَرَهَا، وحسَّنَتْ أسجاعَهَا، فوازنَتْ في الفقرةِ الأولى «لَحمَ» «بِرأسٍ» في الثَّانِيةِ، و «جَمَلَ» «بِجَبَلٍ»، وَ «غَثَّ» «بِوَعْثٍ»، في الرِّوايةِ الواحدَةِ، و «قَحْرَ» «بِوَعرٍ»، في الرِّوايةِ الأُخرَى، فأفرغَتْ كُلَّ فقرةٍ في قالِبِ أختِها، ونسجَتْها على مِنْوالِ صاحبتِها.

ومِنْ هذا البابِ في القرآنِ العزيزِ في حسنِ التَّأليفِ ومُناسبةِ الألفاظِ ومُقابلةِ الكلماتٍ كثيرٌ، كقولِه: {إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} [العاديات: ٩ - ١٠].

وقولِه: {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} [العاديات: ٤ - ٥].

على أنَّ هذا داخلٌ في بابِ «التَّرْصِيعِ».

ومنه قولُ السَّادسةِ: «إنْ / أَكَلَ اقْتَفَّ، وإنْ شَرِبَ اشْتَفَّ، وإنْ هَجَعَ الْتَفَّ».

وقولُ الخامسةِ: «إنْ خَرَجَ أَسِدَ، وإنِ دَخَلَ فَهِدَ».

وقولُ الرَّابعةِ: «لَا حَرَّ ولَا قُرَّ، ولَا مَخَافَةَ ولَا سَآمَةَ».

وقولُ الثَّامنةِ: «المَسُّ مَسُّ أَرْنَبٍ، والرِّيحُ رِيحُ زَرْنَبٍ».

فهذا كلُّه مِنْ حُسنِ النَّظمِ، ومُناسبةِ اللفظِ، وهو بابٌ آخرُ منَ البدِيعِ يُسمَّى: «المُناسَبَةَ» (١).


(١) المناسبة على ضربين: مناسبة في المعاني، ومناسبة في الألفاظ.
فالمعنوية: أن يبتدئ المتكلم بمعنى ثم يتمم كلامه بما يناسبه معنى دون لفظ، وهي كثيرة في الكتاب العزيز فمنه قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (٢٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ} [السجدة: ٢٦، ٢٧]. فانظر إلى قوله سبحانه وتعالى، في صدر الآية التي هي للموعظة: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ}، ولم يقل: أولم يروا لأن الموعظة سمعية، وقد قال بعدها: {أَفَلَا يَسْمَعُونَ}. وانظر كيف قال في صدر الآية التي موعظتها مرئية: {أَوَلَمْ يَرَوْا}، وقال بعد الموعظة البصرية: {أَفَلَا يُبْصِرُونَ}.
وأما المناسبة اللفظية: فهي توخي الإتيان بكلمات متزنات، وهي على ضربين: تامة، وغير تامة، فالتامة: أن تكون الكلمات مع الاتزان مقفاة، وأخرى ليست بمقفاة، فالتقفية غير لازمة للمناسبة.
ومن شواهد المناسبة التي ليست بتامة في الكتاب العزيز قوله تعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} [ق: ١، ٢].
ومن شواهد التامة في السنة: قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - مما كان يرقي به الحسنين - رضي الله عنهما -: «أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة». ينظر: «تحرير التحبير» (ص: ٣٦٣، ٣٦٧)، و «خزانة الأدب» لابن حجة الحموي (١/ ٣٦٧).

<<  <   >  >>