وفي قولِ التَّاسعةِ سِوى ما ذكرنَاهُ منَ / المُناسبةِ، والاستعارةِ / نوعٌ منَ البلاغةِ يُسمَّى:«الإرْدَافَ والتَتْبِيعَ»، وهو من أجلى وجوهِ البلاغةِ، وأرَقِّ أنفاسِ البديعِ، وله منَ الإيجازِ والاختصارِ المحِلُّ الرَّفيعُ، وهو لاحِقٌ بأبوابِ الإشارةِ والوحيِ والكِنايةِ، وموضوعُهُ: أنْ يَقصِدَ الإبانةَ عنْ معنًى، فيترُكَ اللفظَ الخاصَّ به، الموضوعَ له، ويُعبِّرَ عنه بلفظٍ منْ توابِعِ معناهُ اللازِمَةِ، وأسبابِهِ المتعلِّقةِ، وأرْدَافِهِ المُتَضَمِّنةِ، وهو نوعٌ يُسمِّيه البُلغاءُ بالإرْدَافِ، وبعضُهم بالتَتْبيعِ، وفي الوصفِ به والتَّعبيرِ / مع إيجازِهِ نوعٌ منَ المُبالغةِ، ومنه قولُه تعالى:
{مُدْهَامَّتَانِ}[الرحمن: ٦٤]، فإنَّه عبَّرَ بهذه اللفظةِ الواحدةِ الوجِيزةِ، والكلمةِ المُفردةِ البليغةِ، عنْ نعمةِ هذه الجنَّةِ، ونضارَةِ ثمارِها، وكثرةِ رِيِّها، وجمالِ منظرِها، وتمامِ حسنِ أشجارِها، ورونقِ نباتِها، بتابِعٍ من توابِعِها، وهي دُهْمَةُ خُضرتِها، الَّتي لا تكونُ إلَّا مع تناهي الرِّيِّ، وشبابِ النَّباتِ، وعدمِ الآفاتِ، وكذلك قولُه تعالى في ذِكرِ المَسِيحِ وأُمِّهِ:{يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ}[المائدة: ٧٥]، فعبَّرَ عنْ حدوثِهما، وأبانَ عنْ حلولِ العوارِضِ البشرِيَّةِ بهما، بحاجتهما إلى أكلِ الطَّعامِ، وكنَّى بذلك وأشارَ إلى أنَّ مَنْ يأكلُ الطَّعامَ يكونُ منه الحدثُ، وكلُّ هذا منافٍ لصفاتِ / الجلالِ والإلهِيَّةِ، فتضمَّنتْ الآيةُ الإرْدافَ والتتبيعَ والكنايةَ والوحيَ والإشارةَ، / فإنَّ تحتَ قولِهِ:{يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} معانِي عظيمةً، وفصولًا كثيرةً.
ويجبُ أن يُتحقَّقَ أنَّ الوحيَ والإشارةَ قد تتداخلُ صورُها أحيانًا مع الإردافِ والتتبيعِ، ومع الكنايةِ، كما في هذه الآيةِ، وأحيانًا تدخلُ في بابِ الاستعارةِ كقولِه: