وا رحمتاه لهم, إنهم يستغيثون فلا يجدون مغيثا, ويستصرخون فلا يسمعون مجيبا، قد تقطعت بهم الأسباب وأعوزتهم الوسائل وسدت في وجوههم السبل فلم يبق لهم منها إلا سبيل الموت، وفي الموت راحة البائسين والمنكوبين من شقاء الحياة وبلائها, لولا أنهم يتركون من بعدهم بين يدي ذلك العدو الظالم أرامل ضعفاء، وأيتاما صغارا, وشيوخا كبارا لا يعلمون ماذا أضمر لهم القدر في صدره من نعيم أو شقاء.
كأني أراهم وقد غلت في صدورهم حمية الدين والوطن, ودارت في رءوسهم سكرة العزة العربية, فأبوا إلا أن يتقدموا إلى الموت الأحمر تقدم المستقتل المستبسل, الذي يعلم أن باب الحياة الأبدية السعيدة لا يفتح إلا بين يدي الأرواح التي احتقرت أجسادها وازدرتها فتجردت من أثوابها الرثة البالية وألقتها من ورائها، وكأني أرى الرجل منهم وقد دخل إلى بيته ليعد عدته, ويودع أهله الوداع الأخير فبكت أمه وناحت زوجته وصاح ولده, فبكى لبكائهم ورنّ لرنينهم لا جزعا من الفراق لأنه فراق يعزيه عنه لقاء الله تعالى, ولا خشية من الموت لأنه يعلم أن الحياة الذليلة أحقر من أن يضن صاحبها بروحه في سبيل الله حرصا عليها، بل مخافة أن تستبدّ بأعراض بيته وحرماته تلك الأيدي الظالمة