التي لا ترحم صغيرا ولا تعطف على كبير, أو أن يهلكوا من بعده جوعا وفقرا؛ لأنه لم يترك لهم قوتا يتبلَّغون به ولا عمادا يعتمدون عليه، فإذا علم أن موقفه بينهم موقف جلل يكاد يُغلَب فيه على أمره حزنا وإشفاقا نظر في وجه السماء نظرة طويلة, أرسل فيها إلى حضرة ربه كل ما تهتف به نفسه القريحة من وجد ورحمة وبكاء وحنين, ثم انفتل من بين أيديهم انفتالا ومضى لسبيله لا يلوي على شيء مما وراءه حتى يبلغ ساحة الحرب, فلا يزال يقرع باب الحياة الأخرى حتى يفتح له.
هنالك تنوح النائحات وتبكي الباكيات وتطير النفوس وتصعق القلوب وترنّ المنازل والدور بالنحيب والتعداد، وهنالك ترى المرأة المسلمة المخبأة التي لم تر في حياتها وجه الشمس إلا من كوة بيتها برزة الوجه عارية الرأس حيرى مولهة هائمة في الطرق والمذاهب, تسائل الغادين والرائحين ما فعل الله بولدها أو زوجها أو أخيها، فإما بقيت في حيرتها بياض يومها وسواد ليلها، وإما عادت إلى بيتها بالثكل القاتل والحزن الدائم، وترى الشيوخ الكبار والأطفال الصغار والعاجزين والضعفاء لائذين بالتلال والآكام, يتقون بها صواعق الحرب وشهبها فلا تقيهم، أو عائذين بالمضايق والمنافذ يفرون إليها من وجوه الخيل