للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

سمعت عنه أنه شكا إلى أحد من الناس ما يواثب قلبه عند النظر إليها أو إلى ما يدب من عقارب شرها إليه ثقة منه بالله ورحمته, وإيثارا لفضيلة الصبر, وسكوتا إلى ما جرت به الأقلام في ألواح المقادير، فكنت أرحم صمته وسكونه وأبكي لجمود عينيه عن البكاء؛ لأني أعلم أن نيران الأحزان لا يسكن اضطرامها ولا يهدأ اعتلاجها إلا باطراد العبرات، وتصاعد الزفرات.

وكان كل ما ينعم به من لذائذ هذه الحياة وأنعمها أنه كان يسافر في كل شهر مرة أو مرتين إلى صديق له في بلد ريفي ناءٍ, يقضي فيه يومين أو ثلاثة ثم يعود وفي ثغره ابتسامة تتلألأ تلؤلؤ نجمة الصبح عند انحدارها إلى الغروب, ثم لا تلبث أن تتلاشى ولا يلبث أن يعود إلى جموده الأول لا يحزن فيبكي ولا يفرح فيبتسم، حتى يخيل للناظر إليه أنه في عالم غير هذا العالم لا يظله ليل, ولا يضيئه نهار.

قضيت في صحبته على حاله تلك بضع سنين أعلم من آلام قلبه ما يحسب أني أجهله فأكاتمه ذلك العلم جهدي رفقا به وإجلالا له وإشفاقا عليه، حتى زرته في منزله ذات يوم فرأيته جاثما في مقعده الذي كان يقتعده من غرفته, وقد أطرق إطراقا طويلا ذهب فيه عن نفسه, فلم يشعر بخفق نعليَّ حتى أخذت

<<  <  ج: ص:  >  >>