إلا ألوان وأصباغ تعرض للكلام فيما يعرض له من شئونه وأطواره, لا علاقة بينها وبين جوهره وحقيقته، ولولا أن غريزة في النفس أن يردد القائل ما يقول ويتغنى بما يردد ترويحا عن نفسه, وتطريبا لعاطفته ما نظم ناظم شعرا، ولا روى عروضي بحرا.
ما كان العربي في مبدأ عهده ينظم الشعر ولا يعرف ما قوافيه وأعاريضه، وما علله وزحافاته، ولكنه سمع أصوات النواعير وحفيف أوراق الأشجار وخرير الماء وبكاء الحمائم فلذ له صوت تلك الطبيعة المترنمة, ولذ له أن يبكي لبكائها، وينشج لنشيجها، وأن يكون صداها الحاكي لرناتها ونغماتها، فإذا هو ينظم الشعر من حيث لا يفهم منه إلا أنه ذلك الخيال الساري المتمثل في قريحته المتردد بين شدقيه، ولا من أوزانه وضروبه إلا أنها صورة من صوره, ولون من ألوانه.
ذلك منتهى نظر العربي إلى الشعر, وذلك ما دعاه إلى أن يسمي النبي الذي بعثه الله إليه شاعرا وهو يعلم كما يعلم غيره من الناس أنه ما قصد في حياته قصيدة, ولا رجز أرجوزة, ولكنه سمع من كتاب الله وآياته المفصلات أبلغ الكلام وأفصحه وأعلقه بالنفوس وآخذه بالألباب وأملكه للعواطف والوجدان وأجمعه