للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بصره واضطرب اضطراب الأغصان اليابسة، بين أيدي الرياح العاصفة، ثم أخذ يهذي هذيان المحموم ويخلط في كلامه خلطا شديدا, فعلمت أن الرجل قد جُنّ وأن العالم الشعري قد فُجع فيه، فمضيت لسبيلي وأنا أسأل الله العافية وأقول: إن جمال المرأة أحقر من أن يقتل أوفر عقل وأعجز من أن يطفئ أكبر قريحة, ولكنها الأقدار تجري بحكمها علينا, وأمر الغيب سر محجب.

تركت منزل دي موسيه ومشيت في شارع من شوارع باريس, فرأيت شيخا رث الثياب زري الهيئة يمشي مشية هادئة مطمئنة ويجر في رجليه نعلا بالية قد أطلت أصابعه من خروقها كما تطل الحيات من أحجارها, فأتبعته نظري فرأيته لا يرفع طرفه سكونا وإطراقا ولا يحرك عضوا من أعضائه رزانة ووقارا, فقلت في نفسي: إن لهذا الرجل شأنا فمشيت وراءه حتى رأيته قد وقف على باب حانوت إسكاف فلم يجد صاحب الحانوت في مكانه فجلس على الأرض ينتظره حتى يعود فيخصف له نعله, فسألت بعض المارة عنه فقال: هذا "كورني" شاعر فرنسا, فأخذتني الدهشة وملكني العجب حتى كاد يحول بيني وبين عقلي, فقلت في نفسي: ويح لكم معشر الناس، أتضنون بقطعة من الجلد الأسمر على رجل يقلد أعناقكم الدر والجوهر؟! أعجزتم عن أن تجمعوا أمركم على أن تمسحوا هذه

<<  <  ج: ص:  >  >>