لأنا لا نعرف لهاتين الصفتين حدودا معينة واضحة، فكل ناقد يزعمهما لنفسه، وكل منتقد عليه يجرد ناقده منهما، ومتى سمح الدهر لعامل من العاملين بالإخلاص المجرد في عمله فيسمح به لجماعة الناقدين!
على أن الناقد الناقم لا تمنعه نقمته من أن يكون مصيبا في بعض ما يقول؛ لأنه لم يأخذ على نفسه عهدا أن يختلق جميع المآخذ التي يأخذها وألا يكتب إلا الباطل والمحال، وإنما هو رجل عياب بالحق وبالباطل فهو يفتش عن السيئات الموجودة حتى يفرغ منها فيلجأ إلى السيئات المختلفة، ولقد كُتب أول نقد في التاريخ بمداد الضغينة والحقد، فقد كانت توجد في عهد اليونان القديم طائفة من الشعراء يجوبون البلاد, ويتغنون بالقصائد الحماسية والأناشيد الوطنية في الأسواق والمجتمعات وبين أيدي الأمراء والعظماء, فيكرمهم الناس ويجلونهم إجلالا عظيما ويجزلون لهم العطايا والهبات فنفس عليهم مكانتهم هذه جماعة من معاصريهم من الذين لا يطوفون في البلاد طوافهم، ولا يحظون عند الملوك والعظماء حظوتهم، فأخذوا يعيبونهم ويكتبون الكتب في نقد حركاتهم وأصواتهم ومعاني أشعارهم وأساليبها، وكان هذا أول عهد العالم بالنقد، والفضل في ذلك للضغينة والحقد، فلرذيلة الحقد