الصالحة والحياة الباقية في ألسنة الأجيال وبطون التواريخ، ولولا هاتان الجنتان جنة المؤمنين وجنة الملحدين ما جد في هذه الحياة جاد, ولا عمل فيها عامل.
إن ميدان الحياة الدنيا أضيق من أن يسع بين غايتيه العمل الصالح والجزاء عليه معا، وكيف يسعهما والمرء لا يكاد يفرغ في حياته من عمله الذي يتوقع عليه الجزاء قبل أن تنطفئ ذبالة حياته وتحترق فحمة شبابه حيث تموت في قلبه لذة العظمة وتنضب في فؤاده شهوة المجد, فإن فرغ منه قبل ذلك لا يترك له حساده ومنافسوه ساعة من ساعات فراغه يستطيع أن يسكن فيها إلى نفسه ليستشعر برد الراحة ولذة الجزاء، فلا بد أن يكون للجزاء حياة أخرى غير هذه الحياة، إما حياة الأجر، أو حياة الذكر.
مات جرجي زيدان فنحن نبكيه جميعا، أما هو فيبتسم لبكائنا ويرى في تفجعنا عليه والتياعنا لفراقه منظرا من أجمل المناظر وأبهاها؛ لأنه يعلم أن هذه الدموع التي ترسلها أجفاننا وراء نعشه أو فوق ضريحه إنما هي ألسنة ناطقة بحبه وإعظامه والاعتراف بفضله والثناء على عمله، وأنها المدد الإلهي النوراني الذي تُكتب به في صحيفة تاريخه البيضاء آيات مجده الخالد وعظمته الباقية، وذلك ما كان يريد أن يكون.