مات جرجي زيدان فبكاه صديقه؛ لأنه كان يحمد وده وإخاءه، وبكاه جاره لأنه كان يجد في جواره لذة الأنس وجمال العشرة, وبكاء معتفيه لأنه كان ينتفع بماله، وبكاه صنيعته لأنه كان ينتفع بجاهه، وبكاه قارئ كتبه لأنه كان يجد فيها من غزارة المادة وجمال الأسلوب وسهولة التناول ما لا يجد السبيل إليه في غيرها، وبكاه قارئ رواياته لأنه كان يجد في خيالها وبراعة تصوراتها عونا له على هموم الحياة وأزرائها، أما أنا فبكيته لأمر فوق ذلك كله.
تطلع الشمس صباح كل يوم من مشرقها على هذه الكائنات؛ ناطقها وصامتها, ساكنها ومتحركها, جامدها وسائلها, فتستمد جميع ذراتها منها مادة حياتها التي تقومها أو صورتها التي تتشكل بها، وتأخذ منها النباتات نماءها والأزهار ألوانها والنار حرارتها والأجسام الحية قوتها والأجسام الجامدة صورتها والأجواء طهارتها ونقاءها، والآفاق جمالها وبهاءها، وكذلك كان جرجي زيدان في سماء هذا البلد.
كان بطلا من أبطال الجد والعمل والهمة والنشاط، يكتب أحسن المجلات ويؤلف أفضل الكتب وينشئ أجمل الروايات, ويناقش ويناضل ويبحث وينقّب ويستنتج ويستنبط, ويجيب السائل ويفيد الطالب في آن واحد، لا يشغله أمر من تلك الأمور عن أمر غيره، ولا يشكو مللا ولا ضجرا ولا يحس بخور ولا فتور،