لم يضق الرجل ذرعا بهذا كله, بل كان شأنه معهم أن كان يعتب عليهم ولا يشتمهم، وينبههم إلى أدب المناظرة وواجباتها ولا يؤنبهم، ويدعوهم إلى اتخاذ كلمة الحق سواء بينه وبينهم ولا يمكر بهم، حتى انقلب عنهم يحمل لواء الفضيلة والحلم وإن كان مخطئا، وانقلبوا عنه يحملون فوق ظهورهم رذيلة التعصب والجهل وسوء الخلق وضيق العطن, وإن كانوا مصيبين.
ولقد وضع بخطته هذه في مناظرة خصومه ومجادلتهم أول حجر في بناء الأخلاق الفاضلة في هذه الأمة, فتعلم منه كثير من أدباء هذا البلد وعلمائه كيف يستطيعون أن يتناظروا ولا يتشاتموا, وأن يتعاونوا على الحقيقة المبهمة فيكشفوا الغطاء عن وجهها دون أن يريقوا في معاركهم قطرة واحدة من دم الفضيلة والشرف، فإن تم لهذه الأمة في مستقبل حياتها حظها من شرف الأخلاق وعلو الهمة ونبالة المقصد في جميع شئونها وأغراضها فلتتذكر دائما أن جرجي زيدان كان أحد الذين أسسوا في أرضها هذه الدولة الفاضلة, دولة الآداب والأخلاق.
نحن لا تعوزنا المؤلفات ولا المترجمات، فالمؤلفون والمترجمون والحمد لله كثيرون، وإنما الذي يعوزنا روح عالية تخفق في سماء هذه الأمة خفوق النجم الزاهر في سمائه, وتشرق في نفوس أبنائها