للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وما كان لسيبويه أَنْ يتَّجه إلى هذا التوجيه إلا بدلالة العلامة الإعرابِيّة «الضمة» على نهاية الفعل «تنبت» التي كانت القرينة على عدم وجود سببية في البيت فينصب الفعل «ينبت». وذهبت به إلى ما ذهب من تأويل.

ويعلق بتعليق مشابه على بيت يشبه البيت السابق، يقول فيه الشاعر) جميل (:

أَلَم تَسأَلِ الرَّبعَ القَواء فَيَنطِقُ ... وَهَل تُخبِرَنكِ اليَومَ بَيداءَ سَملَقُ

[بحر الطويل]

ويعلق قائلا: «لم يجعل الأول سببا للآخر، ولَكِنَّه جعله ينطق على كل حال، كَأَنَّه قال: فهو مما ينطق، كما قال: ائتني فأحدِّثُك، فجعل نفسه ممن يحدثه على كل حال») (١).

الفعل «ينطقُ» مرفوع «وهو مبنيٌّ على مبتدأ محذوف؛ أي: هو ينطق، ولا يضر اقترانه بالفاء، فإنَّها فيه للاستئناف لا للعطف ولا للسببية») (٢)؛ أي أنَّ حالة الرفع تضعنا أمام جملة اسمية «هو ينطق»، والجملة الاسمية تفيد الثبات والاستمرارية على كل حال. واختيار الشاعر لهذا التوجيه

«الرفع» مع إمكانية النصب لا بد وأن يرتبط بالحالة النفسية للشاعر المتأثر بسياق حال ما.

ويثير هذا البيت وما قبله عدة ملحوظات:

ــ الأولى: عبارة سيبويه: «ولو نصب هذا البيت ــ كما قال الخليل ــ لجاز، ولكنا قبلناه رفعا» وردت بين البيتين السابقين وليس من الواضح تماما أي البيتين تقصده هذه العبارة: بيت النابغة أم بيت جميل، ولكن يبدو أنها قيلت قبل الثاني بيت جميل. وهذه العبارة ــ بغض النظر لأي البيتين توجهت ــ مثيرة للاهتمام، فسيبويه فضل حالة الرفع على النصب؛ لأنَّهُ «تلقاه رفعا» أي «تلقى البيت مرفوعا كما تتلقى القابلة الولد» على حد تعبير الأستاذ هارون في الهامش، وهذا يعني أَنَّ سيبويه كان يفضل الواقع اللغويّ على القياس، وأنَّ هذا الواقع اللغويّ مقدم عنده على القياس، وليس العكس كما أشار عدد من الباحثين، وقد كان في مُكنته أَنْ يجيز حالة النصب، وخاصة أَنَّ أستاذه الخليل قد أجازه، أي أَنَّ هذا الموضع من الأدِلَّة التي تذكر على تفضيله الواقع اللغويّ الحي على القياس.

ــ الثانية: وتشير نفس الجملة إلى اعتماده على الواقع الحي لِلُّغَة، أي اللُّغَة منطوقة ومنشدة.

ــ الثالثة: أَنَّ هذه العبارة تشير أيضا إلى استقلالية منهجِيَّة عند سيبويه بعيدة نوعا ما عن أستاذه الخليل.

ــ الرابعة: أَنَّهُ تلقاه رفعا ثُمَّ فسره بتخيل سياق حال يوجد فيه الشاعر.


(١) سيبويه: الكتاب، ٣/ ٣٧
(٢) خالد الأزهري: التصريح بمضمون التوضيح، ٢/ ٢٨١

<<  <   >  >>