للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

» الملحوظة الأولى:

يربط سيبويه بين التعبير بجمع القِلَّة أو الكثرة وبين «إرادة المُتَكَلِّم»؛ فالمُتَكَلِّم إذا أراد التعبير عن القِلَّة استخدم جموع القِلَّة، وإذا أراد التعبير عن الكثرة استخدم أوزان الكثرة. ولا بد أَنَّ هذا سيكون مرتبطا بالسِّياق الذي يكون في المُتَكَلِّم.

ونلاحظ في المثال الخامس أَنَّ الجمع «كِسَر» قد يُعَبِّر عن القِلَّة وقد يُعَبِّر عن الكثرة، وأنَّ هذا الأمر مرهون بإرادة المُتَكَلِّم المرتبطة بدورها بالسِّياق التي توجد فيه.

وهنا سؤال: إِنَّ المُتَكَلِّم البليغ العالم بلغته أمامه مجموعتان من الجموع: مجموعة تعبر عن «القِلَّة»، ومجموعة تعبر «الكثرة»، فإذا أراد أَنْ يُعَبِّر عن القِلَّة استخدم أحد أوزانها، وإذا أراد أَنْ يُعَبِّر عن الكثرة استخدم أحد أوزان الكثرة، فلماذا إذن يخلط المُتَكَلِّم بين الاختيارين؟ لماذا يُعَبِّر عن القِلَّة بجمع من جموع الكثرة أو العكس؟

وإجابة هذا السؤال لا تعدو أمرين:

• الأول: أَنَّ ربط النُّحَاة دلالة القِلَّة أو الكثرة بأوزان مُعَيَّنَة أمر غير دقيق، متروك للسياق) (١)، كما أشرنا لقول د. إبراهيم أنيس في بداية بحثنا.

• الثاني: وجود نكتة بلاغية في هذا، وأنَّ الكاتب أو الأديب أراد أَنْ يتخذ هذا الانتقال لـ «تنبيه» قارئه لأمر ما. فالأمر المألوف تعتاد العين عليه ولا تقف عنده، أَمَّا ما خرج عن المألوف فإِنَّهُ يستوقفها) (٢).


(١) من الأقوال المُهِمَّة التي تتَعَلَّق بجموع القِلَّة ما نقله البغدادِيّ في كتابه: ((خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب)) عن شيوخه قولهم: ((إذا قرن جمع القِلَّة بأل التي للاستغراق أو أضيف إلى ما يدل على الكثرة انصرف بذلك إلى الكثرة))، ت: عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط ٤، ) ١٩٩٧ م (٨/ ١٠٩، وعُلِم من مناقشة للأداة ((أل)) أنَّ دلالتها تتحدد من خلال السِّياق.
(٢) هناك من الباحثين بالفعل من درس هذا الأمر بلاغيا وأشار إليه منهم الأستاذ الدكتور: عبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني الدمشقي، في كتابه ((البلاغة العَرَبِيَّة))، حيث اعتبر هذا الانتقال بين جموع القِلَّة والكثرة نوعا من

((المجاز)) بمعنى أنَّه اعتبر أنَّ من أنواع المجاز: ((إطلاق اللّفظ للدلالة به على غير ما وُضع له في ما اصطلح به التخاطب، مع قرينةٍ مانعةٍ من إرادة المعنى الأصلي))، واعتبر هذا المجاز من ((المجاز المرسل))، وجعل من هذا النوع: ((وضع جموع القِلَّة بدل جموع الكثرة لغرض بلاغي، كتعظيم العدد القليل، والإِشعار بأنّ ما يشتمل عليه هذا العدد القليل من صفات جليلة وعظيمة يجعله معادلاً للعدد الكثير. ومنها وضع جموع الكثرة بدل جموع القِلَّة، لغرض بلاغيّ، كتحقير العدد الكثير، والإِشعار بأنّ ما يشتمل عليه هذا العدد الكثير من تناقض في صفات كماله يجعله معادلاً للعدد القليل)). ينظر: البلاغة العَرَبِيَّة، دار القلم، دمشق، بيروت ط ١، ) ١٩٩٦ م (، ٢/ ٣٠٨

<<  <   >  >>