للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والمعاني. وأكثر من القوانين والضوابط؛ فأثقل على العلماء والمتعلِّمين، وغلا في القواعد بحيث أصبحت جوفاء لا تصدق إلا على حال أو أحوال محدودة، ومع ذلك لم تخل من شذوذ واستثناء، وأسرف في التمارين غير العَمَلِيَّة التي جاءت وليدة تشبيه وفروض وهمية لا أساس لها. ومن يقرأ شرح السيرافي على كتاب سيبويه أو شرح أبي حيان على التسهيل يلمس أَنَّ النُّحَاة كثيرا ما أفسدوا النحو بما وضعوا من فروع وعلل وأصول وأقيسة ومسائل غير عَمَلِيَّة.

وفوق هذا فتح مبدأ العلية على النُّحَاة باب فلسفة مفرطة وثقيلة أحيانا، فهناك علل أُوَل وثوان وثوالث، وقد يكون للمعلول الواحد أكثر من علِّة يتأوَّلها كلُّ نحوي كما يتراءى له. وفي باب الممنوع من الصرف أمثلة من تلك العلل المتهافتة، وفي باب الاشتغال ولا النافية أمثلة أخرى من تلك الاعتبارات الفلسفِيَّة غير المقبولة. وكثيرا ما ورد في المسألة قولان أو أقوال، واستخدمت العلِّة الواحدة في إثبات الشيء وضده ... ولعلَّ هذا هو الذي دفع ابن مضاء الأندلسي إلى القول بإلغاء نظَرِيَّة العامل، ورفض القياس والعلل النحوِيَّة، فوق ما كان لديه من اعتبارات أخرى نظَرِيَّة») (١).

وسوف أضرب هنا مثالا واحدا على نظَرِيَّة العامل هذه يبين مدى تعقيدها ومدى تهافتها.

في كتاب ((الإنصاف في مسائل الخلاف)) لأبي البركات الأنباري، نقرأ مناقشة له على مدار خمس صفحات عن العامل في «المبتدأ»، فنجده يقول في مسألة ((القول في رافع المبتدأ ورافع

الخبر)): «ذهب الكوفيون إلى أَنَّ المبتدأ يرفع الخبر، والخبر يرفع المبتدأ؛ فهما يترافعان، ... وذهب البصريون إلى أَنَّ المبتدأ يرتفع بالابتداء، وأما الخبر فاختلفوا فيه: فذهب قوم إلى أَنَّه يرتفع بالابتداء وحده، وذهب آخرون إلى أَنَّه يرتفع بالابتداء والمبتدأ معًا، وذهب آخرون إلى أَنَّه يرتفع بالمبتدأ والمبتدأ يرتفع بالابتداء. أَمَّا الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إِنَّمَا قلنا إِنَّ المبتدأ يرتفع بالخبر والخبر يرتفع بالمبتدأ لأنَّا وجدنا المبتدأ لا بدّ له من خبر، والخبر لا بدّ له من مبتدأ، ولا ينفك أحدهما من صاحبه، ولا يتم الكلام إلا بهما ... ولا يمتنع أَنْ يكون كل واحد منهما عاملًا ومعمولًا،

ولا يجوز أَنْ يقال أَنَّ المبتدأ يرتفع بالابتداء، لأنا نقول: الابتداء لا يخلو: إما أَنْ يكون شيئًا من كلام العرب عند إظهاره، أو غير شيء؛ فإنْ كان شيئًا فلا يخلو من أَنْ يكون اسمًا أو فعلًا أو أداة من حروف المعاني؛ فإنْ كان اسمًا فينبغي أَنْ يكون قبله اسم يرفعه، وكذلك ما قبله إلى ما لا غاية له، وذلك محال، وإن كان فعلًا فينبغي أَنْ يقال زيد قائمًا ... وإن كان أداة فالأدوات لا ترفع الأسماء على هذا الحد. وإن كان غير شيء فالاسم لا يرفعه إلا رافع موجود غير معدوم، ومتى كان غير هذه الأقسام الثلاثة التي قدمناها فهو غير معروف. قالوا: ولا يجوز أَنْ يقال إِنَّا نعني


(١) يُنْظَر: د. إبراهيم بيومي مدكور: منطق أرسطو والنحو العربي، مجلة مجمع اللُّغَةالعَرَبِيَّة بالقاهرة، ج ٧ ص ٣٤٥، ٣٤٦، وألقي هذا البحث في مؤتمر المجمع، الجلسة السابعة، ٢٧ من ديسمبر ١٩٤٨ م

<<  <   >  >>