للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بالابتداء التَّعَرِّي من العوامل اللفظِيَّة، لأنا نقول: إذا كان معنى الابتداء هو التعري من العوامل اللفظِيَّة فهو إذًا عبارة عن عدم العوامل، وعدم العوامل لا يكون عاملًا. والذي يدل على أَنَّ الابتداء لا يوجب الرفع أنَّا نجدهم يبتدئون بالمنصوبات والمسكنات والحروف، ولو كان ذلك مُوجبًا للرفع لوجب أَنْ تكون مرفوعة، فلما لم يجب ذلك دَلَّ على أَنَّ الابتداء لا يكون موجبًا للرفع.

وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إِنَّمَا قلنا إِنَّ العامل هو الابتداء وإن كان الابتداء هو التعري من العوامل اللفظِيَّة لأَنَّ العوامل في هذه الصناعة ليست مؤثرة حسية كالإحراق للنار والإغراق للماء والقطع للسيف، وإِنَّمَا هي أمارات ودلالات، وإذا كانت العوامل في محلّ الإجماع إِنَّمَا هي أمارات ودلالات فالأمارة والدِّلَالَة تكون بعدم شيء كما تكون بوجود شيء، ألا ترى أَنَّه لو كان معك ثوبان وأردت أَنْ تميز أحدهما من الآخر فصبغْتَ أحدهما وتركت صبغ الآخر لكان تَرْكُ صبغ أحدهما في التمييز بمنزله صبغ الآخر؟ فكذلك ههنا. وإذا ثبت أَنَّه عامل في المبتدأ وجب أَنْ يعمل في خبره، قياسًا على غيره من العوامل، نحو ((كان)) وأخواتها و ((إِنَّ وأخواتها)) و ((ظننت)) ... وأخواتها فَإِنَّها لما عملت في المبتدأ عملت في خبره فكذلك ههنا ... وأما من ذهب إلى أَنَّ الابتداء والمبتدأ جميعا يعملان في الخبر فقالوا: لأنا وجدنا الخبر لا يقع إلا بعد الابتداء والمبتدأ؛ فوجب أَنْ يكونا هما العاملين فيه، غير أَنَّ هذا القول وإن كان عليه كثير من البصريين إلا أَنَّه لا يخلو من ضعف، وذلك لأَنَّ المبتدأ اسم، والأصل في الأسماء أَنَّ لا تعمل، وإذا لم يكن له تأثير في العمل، والابتداء له تأثير، فإضافة ما لا تأثير له إلى ما له تأثير لا تأثير له ... ») (١).

إن تتَبُّع هذا النَّصّ وما فيه من استدلالات مغرقة في الفلسفية على مدار خمس صفحات أمر مرهق ذهنيا، يولد الملل والضجر، ويصد عن متابعة القراءة واستمرارها، ويعطي انطباعا سيئا يبقى في نفس القارئ دوما، ولقد كان من السهل علينا أَنْ نقول بدلا من كل هذا أَنَّ الذي رفع المبتدأ والخبر هو المُتَكَلِّم، وأنَّ المُتَكَلِّمين اتفقوا على رفع الاسم في بداية الجملة الاسمِيَّة، كما تعارفوا على الألفاظ ودلالتها، وتعارفوا على البنى اللفظِيَّة، واتفقوا على استعمال بعضها وإهمال البعض الآخر.

وقولنا إِنَّ المُتَكَلِّم هو الذي رفع أو نصب أو جر هو قولٌ سبقنا به عالمان من علماء العربِيَّة: ابن جني وابن مضاء، والباحث ليس بدعا في هذا.

ويحضرنا هنا نص مُهِمّ للرضي) ت: ٦٨٨ هـ (يتحدث فيه عن أحد أفعال اليقين الفعل

«علم»، محاولا إظهار الفرق بينه وبين الفعل «عرف»، فيقول:

« ... وإمّا لليقين فقط وهو «علم» بمعنى «عَرَف»، ولا يُتوهم أنَّ بين ((علمت))

و((عرفت)) فرقًا معنويًا، كما قال بعضهم، فإنَّ معنى: ((علمت أنَّ زيدًا قائم)) و:


(١) الإنصاف في مسائل الخلاف، ١/ ٥٦

<<  <   >  >>