للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

• ومن هذه التفاصيل أيضا ما لاحظه من قيام بعض رواة الشعر من «إشمام» للأبيات التي يروونها، يقول:

«وقد يُسكِّن بعضُهم في الشعر ويُشمُّ، وذلك قول الشاعر امرئ القيس:

فاليومَ أَشْرَبْ غيرَ مُسْتَحِقبٍ ... إثمًا من الله ولا واغل [بحر السريع]» (١).

وقال عند قول الشاعر:

متى أَنَامُ لا يُؤَرِّقْني الكَرَى ... ليلًا ولا أسمعُ أجراسَ المَطِي [بحر الرجز]

«وقد سمعنا من العرب مَن يُشِمُّه الرَّفْعَ، كَأَنَّه يقول: متى أنام غير مُؤَرَّق» (٢).

والإشمام مصطلح عند النُّحَاة يراد به «تهيئة الشفتين للتلفظ بالضم ولكن لا يتلفظ به ... [و] يراد به أيضا تصوير الفم عند حذف الحركة بالصورة التي تعرض عند التلفظ بتلك الحركة بلا حركة ظاهرة ولا خفية، وعلامته في الكتابة نقطة بين يدي الحرف» (٣). أو هو بعبارة أخرى: «نوع من أنواع الوقف على المتحرك، وهو قسيم الإسكان والروم والتضعيف والنقل. والوقف بالإشمام هو ضم الشفتين بعد تسكين الحرف الأخير، ولا يكون إلا فيما حركته ضمة») (٤)؛ أي أَنَّ الإشمام يُدْرَكُ عن طريق البصر، وهذا يتطلب أَنْ يكون المستمع والرائي قريبين من المنشِد أو المتحدِّث ليتمكنا من رؤية حركة الشفتين. كما أَنَّ الأذن هنا لعبت دورا دقيقا؛ إذ أدركت عدم النطق بالضم.

ما سبق يجعلنا نُقَرِّر أَنَّه إذا كان سيبويه ينتبه إلى هذه الفروق الدقيقة جدا التي تتطلب انتباها وتركيزا فائقين من صاحبها فمن باب أولى أَنْ ينتبه لما هو أكثر قابلية للملاحظة من عناصر سياق الحال المختلفة التي سبق أَنْ سردناها في التمهيد السابق، التي تؤثر لا محالة في اللُّغَة.

إن اهتمام سيبويه بالسماع وقيامه بالتَّقْعِيد لمعظم القواعد التي سطَّرها في كتابه على الشعر الذي سمعه في حالة «إنشاد» يدلان على أَنَّه اعتمد على اللُّغَة الحَيَّة المنطوقة في وقته؛ وهذا يضمن أَنَّ قواعده التي استخلصها تمثل اللُّغَة تمثيلا صادقا.

وقد كانت إحدى الميزات التي تميزت بها المدرسة البنيوية في بدايتها اعتمادها على اللُّغَة الحَيَّة المنطوقة لغة الحديث الفعلِيَّة، وقد كانت تلك مِيزةٌ احتفى بها اللغويّون أيما احتفاء. يقول


(١) سيبويه: الكتاب، ٤/ ٢٠٤
(٢) سيبويه: الكتاب، ٣/ ٩٥ وينظر أيضا موضع يدل على دقته السمعية ٤/ ٤٣٨ ــ ٤٣٩
(٣) د. محمد إبراهيم عبادة: معجم مصطلحات النحو والصرف والعروض والقافية، مكتبة الآداب، القاهرة، ط ١، ) ٢٠١١ م (، ص ١٧٧
(٤) د. محمد سمير نجيب اللبدي: معجم المصطلحات النَّحْوِيَّة والصَّرْفِيَّة، ص ١١٩

<<  <   >  >>