للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والفرزدق وراعي الإبل وذي الرمة حلقة») (١). ويتفرد المربد بأمر علمي محض «لم يكن له في عكاظ من أَثر، وهو أَنَّه أرفد اللُّغَة بمادة كثيرة، عليها أسس النُّحَاة قواعدهم وأصلحوها، وذلك بما كانوا يقصدون له فصحاء العرب يسألونهم فيما فيه يختلفون ...

[و] تجد أَنَّ أكثر مادتها فيما يتعلق بالعصر الأول والثاني للهجرة») (٢). ولا يمكن أَنْ يكون سيبويه الذي نشأ وتربى في البصرة أَنْ يكون بمعزل عن هذه السوق وهذه البيئة العلميَّة التي يُنْشَدُ فيها الشعر من رواة متقنين.

ج قال البغدادِيّ: «وعمل سيبويه كتابه على لغة العرب وخطبها وبلاغتها» (٣).

إذا وضعنا هاتين المجموعتين من الحقائق إزاء بعضهما نخرج بحقيقة علمِيَّة مُؤَدّاها أَنَّ سيبويه ــ لا محالة ــ وضع قواعده من خلال لغة مُنشَدة منطوقة حية تتفاعل مع الواقع تفاعلا، وأَنَّه قد أسس قواعده على ثقافة شفاهيَّة تتمتع بكل ما نقلناه عن والتر ج. أونج. وقد علمنا في التمهيد من قبل أن سيبويه كان جل اعتماده على الشعر في تقعيده.

ومما يثير الدهشة والعجب لدى المتأمِّل لنصوص الكتاب انتباه سيبويه لتفاصيل دقيقة جدا أثناء عَمَلِيَّة السماع للنصوص الشعرِيَّة والنثرِيَّة، تفاصيل لا تحتاج فقط إلى تركيز سمعي بل أيضا إلى تركيز بصري فائق.

• من هذه التفاصيل الدقيقة مثلا انتباهه للاختلافات الصَّوْتِيَّة الدقيقة التي تحتاج إلى سمع مرهف خبير بالأصوات، فنجده مثلا يلاحظ الاختلافات الصَّوْتِيَّة لحرف «الزاي» وأنَّ له اختلافات في النطق، فيقول: «وسمعنا العرب الفصحاء يجعلونها زايا خالصة» (٤). ونجده يرصد صوتيًّا ما يحدث لحرف العين من تغير صوتي إذا أتي مع حرف الهاء؛ فيقول:

«ومما قالت العرب تصديقا لهذا في الإدغام قولُ بني تميم: مَحُّمْ، يريدون: معهم، ومَحَّاولاءِ، يريدون: مع هؤلاءِ» (٥).

• وفي الحقيقة إِنَّ باب الإدغام في كتاب سيبويه يدلُّ على براعته الفائقة ودِقَّتِه في ملاحظة الفروق الصَّوْتِيَّة بين الحروف.


(١) السابق، ص ٤١١
(٢) السابق، ص ٤١٢
(٣) خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب، ت: عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط ٤، ١/ ٣٧٢
(٤) سيبويه: الكتاب، ٤/ ٤٧٨ وينظرما قاله السيوطي في همع الهوامع في باب مخارج الحروف عن علاقة حرف الصاد بحرف الزاي. ٣/ ٤٩٢ (طبعة مكتبة التوفيقية، ت: د. عبد الحميد هنداوي)
(٥) سيبويه: الكتاب، ٤/ ٤٥٠

<<  <   >  >>