للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومثل ذلك: أنت أنت، وإن فعلت هذا فأنت أنت؛ أي: فأنت الذي أعرف، أو أنت الجواد ... كما تقول: الناسُ الناسُ؛ أي: الناس بكل مكان وعلى كل حال تعرف» (١).

إِنَّ التحليل الدِّلَالِيّ لـ «أنت أنت» أو «الناسُ الناسُ» الذي قدَّمه سيبويه، واعتبر فيهما أَنَّ هذين التركيبين جملتان لا يَتَأَتَّى له بدون الأخذ في الاعتبار سياق الحال، إذ بدون السِّياق يحتمل أَنْ تكونَ اللفظتان مجرد توكيد لفظي. ولم يصرح سيبويه بشكل جليّ بأَنَّه استعان بسياق الحال للوقوف على هذه الدِّلَالَة، ولكن هذا ما يفهم ضمنا من الكلام.

٢ ــ وفي نصّ ثانٍ ينقل سيبويه عن يُونُس أَنّهُ قال في قول العرب: «هذا أنت تقول كذا وكذا» أَنَّ مقصودهم في هذا القول أَنَّ المُتَكَلِّم «يريد أَنْ يُعْلِمَ [المخاطب] أَنّهُ ليس غيره». ويردُّ سيبويه هذا المعنى على يُونُس قائلا: «هذا محال، ولَكِنَّه أراد أَنْ يُنَبِّهه، كَأَنَّه قال: الحاضر أنت، والحاضر القائل كذا وكذا أنت» (٢).

إِنَّ المعنى الذي قدَّمه يُونُس لجملة «هذا أنت تقول كذا وكذا»: أَنَّ المُتَكَلِّم يريد أَنْ يُعلم المخاطب أَنّهُ هو وليس أحد غيره، وهذا معنى سقيم، ومعنى الجملة عند سيبويه: أَنَّ المُتَكَلِّم أراد تنبيه المخاطب، أَنَّه هو قائل الكلام، ولَعلَّ المُتَكَلِّم يريد أَنْ ينبِّه المخاطب خطورة هذا الكلام ومغبته، وهو المعنى الأقرب للفهم والسِّياق. فسيبويه لجأ لسياق الحال ــ وإِنْ لم يصرح ــ لفهم الجملة، في الوقت الذي أخطأ فيه يُونُس في فهم الجملة لعدم إلمامه به واعتباره.

٣ ــ وفي نصّ ثالث يقول: « ... وكذلك: ما أنت وعبد الله، وكيف أنت وعبد الله، كَأَنَّك قلت: ما أنت وما عبد الله، وأنت تريد أَنْ تحقر أمره أو ترفع أمره» (٣). إِنَّ ربط التحقير أو الرفعة بجملة «ما أنت وعبد الله» يرتبط بالسِّياق حتى وإِنْ لم ينص على ذلك.

إن سياق الحال عنصر فعَّال في كثير من المواضع في كتاب سيبويه؛ وإن كان عنصرًا صامتًا ــ إِنْ جاز هذا التعبير ــ أو «مسكوتًا عنه» بتعبيراتنا الحديثة في بعض المواضع التي استخدم فيها. إِنَّ مجموع هذه النصوص وغيرها يثبت أَنَّ سيبويه اعتبر السِّياق في تقعيده وتوجيهه.

***


(١) سيبويه: الكتاب، ٢/ ٣٥٩
(٢) سيبويه: الكتاب، ٢/ ٣٥٥
(٣) سيبويه: الكتاب، ١/ ٣٠١

<<  <   >  >>