لم يكن ما تقدم في شأن أهل الكتاب هو كل مواقف الإسلام السمحة معهم، بل إن للإسلام مواقف أخرى تفيض وُدَّاً وألفة. فقد مدّ الإسلام بينهم وبين المسلمين جسوراً متينة من التواد والتسامح لم يحظ المسلمون بنظير لها منهم، فكان الإحسان من طرف واحد - هو الإسلام، مع إصرار القوم في كل زمان ومكان على إضمار أبشع صور العداء له، وهو هو ماضٍ في طريقه غير نادم على ما فعل معهم منهجاً وسيرة.
فمن مظاهر التكريم لهم أن القرآن إذا تحدث عنهم سماهم:"أهل الكتاب" في أكثر المواضع التي تحدّث فيها عنهم، دون أن يدعوهم بأنهم كافرون أو مشركون، ومن يرجع إلى آيات الذكر الحكيم يهوله كثرة ما ورد في شأنهم من الصوف بـ "أهل الكتاب".
وأحياناً يتحدث عن اليهود باسمهم:"اليهود"، أو "الذين هادوا" وعن النصارى - كذلك - باسمهم:"النصارى" أو "الذين قالوا: إناَّ نصارى"، وفي الحديث عنهم بهذه الطريقة تكريم لهم وأي تكريم، واستمالة لأنفسهم وأي استمالة، لأن فيها إطراح الأوصاف الأخرى كالكفر والشرك ومن شأنها أن توغر الصدور، وتثير الأحقاد، اللهم إلا في المواضع التي يتحتم فيها النص على الحكم الشرعي إذا أسند إليهم قول أو فعل ينافي عقيدة التوحيد، وحتى في هذه الحالة قد يقترن الخطاب بما يخفف عنهم من وطأة الحكم، كقوله تعالى:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ... } فقد عبَّر عنهم هنا - وهم النصارى - بالموصول والصلة:{الَّذِينَ قَالُوا ... } ولم يذكر اسمهم الصريح.
ومن سماحة الإسلام مع أهل الكتاب - جميعاً -أن أحلَّ لهم طعام المسلمين وأحلّ طعامهم للمسلمين، وفي ذلك فتح لأبواب التواد والتعاطف والتراحم وبتبادل صنائع الود والمعروف:{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ ... } .