في معناه لا حجة فيه بالنسبة لنا، ذلك أن الناقد في ذلك الوقت يمكنه أن يتحقق من صيغة الرواية التي حدث بها المدلس، إما تصريح بالسماع، كأن يقول: سمعت، أو حدثنا، أو عدم تصريح، كأن يقول: قال، أو ذكر، أو حدث، فإذا لم يصرح المدلس بالتحديث حكم الناقد بأنه قد دلس، وليس هذا محل مناقشة، وإنما المناقشة فيما إذا وردتنا رواية عن المدلس فيها عنعنة بين المدلس وشيخه، فهي موضع الإشكال، لكثرة ورودها في الأسانيد، فالاحتمال قائم أن يكون المدلس صرح بالتحديث، والتغيير ممن بعده، ذلك أن التعبير بصيغة عن أكثره ليس من الراوي المعنعن، وإنما هو ممن بعده، ولهذا فإننا لو عرفنا بطريقة ما أن المعنعن هو المدلس لحكمنا أيضاً بوقوع التدليس، كما لو روى بصيغة قال، وذكر.
ولابد من التسليم بقوة هذا الاعتراض، ومع هذا فعنه جواب، فالاستدلال بهذه النصوص الغرض منه تأكيد اهتمام النقاد بالتدليس، وبذلهم الجهود المضنية للكشف عنه، فقد شاع بين الباحثين أن المتقدمين لم يكونوا يشددون في التدليس، وليس الأمر كذلك، بل شددوا فيه أبلغ تشديد، ولاقوا في سبيل ذلك عناء ومشقة، فمطالبة المدلس بالتصريح والإلحاح عليه - بل وغير المدلس - ليس بالأمر الهين عليه، والناقد يلاقي من ذلك عنتاً.
فمن ذلك ما رواه حماد بن سلمة قال:"جاء شعبة إلى حميد فسأله عن حديث لأنس، فحدثه به، فقال له شعبة: سمعته من أنس؟ قال: فيما أحسب، فقال شعبة بيده هكذا - وأشار بأصابعه -: لا أريده، ثم ولَّى، فلما ذهب قال حميد: سمعته من أنس كذا وكذا مرة، ولكنني أحببت أن أفسده عليه"(١).
(١). " الجعديات" ١: ٨، و"حلية الأولياء" ٧: ١٥٠، وانظر: "المعرفة والتاريخ" ٢: ٦٥٦، ٣: ٣١، وفي الموضع الأخير خلل.