ولا شك أنه يدخل بهذا كل الطاعات وأعمال البر، وتقوى الله في الحلال والحرام، وغض الأبصار، والاستعداد لدار القرار.
وقد أخرج البخاري عن ابن عباس قال: [قدم عُيينة بن حصن بن حُذيفة، فنزل على ابن أخيه الحُرّ بن قيس - وكان من النفر الذين يُدنيهم عُمَر، وكان القراء أصحاب مجالس عمرَ ومشاورته - كُهولًا كانوا أو شبانًا - فقال عُيينة لابن أخيه: يا ابن أخي، لك وَجْهٌ عند هذا الأمير، فاستأذن لي عليه. قال: سأستأذن لك عليه. قال ابن عباس: فاستأذن الحرُّ لعُيَيْنة، فأذن له عمر، فلما دخل قال: هِيْ يا ابن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجَزْل، ولا تحكم بيننا بالعدل. فغضب عمر حتى همَّ أن يُوقِعَ به. فقال له الحرّ: يا أمير المؤمنين، قال الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}. وإن هذا من الجاهلين، والله ما جاوزها عُمرَ حين تلاها عليه، وكان وقافًا عند كتاب الله عز وجل] (١).
وعن قتادة:(قوله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}، قال: أخلاقٌ أمر الله بها نبيّه - صلى الله عليه وسلم - ودلَّه عليها).
قال ابن جرير:(وأما قوله: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}، فإنه أمر من الله تعالى نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - أن يعرض عمن جهل. وذلك وإن كان أمرًا من الله نبيّه، فإنه تأديب منه عز ذكره لخلقه باحتمال من ظلمهم أو اعتدى عليهم، لا بالإعراض عمن جهل الواجبَ عليه من حق الله، ولا بالصفح عمن كفر بالله وجهل وحدانيته، وهو للمسلمين حَرْب).
وقال القرطبي:(وفي قوله: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} الحضُّ على التعلق بالعلم، والإعراض عن أهل الظلم، والتنزه عن منازعة السفهاء، ومساواة الجهلة الأغبياء، وغير ذلك من الأخلاق الحميدة والأفعال الرشيدة).
وقال ابن كثير:(وقال بعض العلماء: الناس رجلان: فرجل محسنٌ، فخذ ما عفا لك من إحسانه، ولا تُكَلِّفه فوق طاقته ولا ما يحرجه، وإما مسيءٌ فَمُرْهُ بالمعروف، فإن تمادى على ضلاله واستعصى عليك واستمرَّ في جهله، فأعرِض عنه، فلعل ذلك أن يردّ كيدَه، كما قال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (٩٦) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون: ٩٦ - ٩٨]. وقال تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ
(١) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (٤٦٤٢) - كتاب التفسير - سورة الأعراف، آية (١٩٩).