للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أو يا غُلَيِّمُ ألا أَعَلِّمك كلمات ينفعك الله بهن! فقلت: بلى، فقال: احفظ الله يَحْفَظْكَ، احفظ الله تجده أمامك، تَعَرَّفْ إليه في الرَّخاء يَعْرفْكَ في الشدة، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، قد جَفَّ القلم بما هو كائنٌ، فلو أن الخلق كُلَّهُم جميعًا أرادوا أن ينفعوك بشيء لم يكتُبْهُ الله عليك لم يقدروا عليه، وإن أرادوا أن يضروك بشيء لم يكتُبْه الله عليك لم يقدروا عليه، واعلم أن في الصّبر على ما تكرهُ خيرًا كثيرًا وأن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العُسر يُسْرًا] (١).

وقوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} قال ابن عباس قوله: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} يقول: حُزْمة). وفي رواية قال: (الأثل). وقال عطاء: (عيدانًا رطبة). وقال ابن زيد: (ضغثًا واحدًا من الكلأ فيه أكثر من مئة عود فضرب به ضربة واحدة فذلك مئة ضربة). وقيل: قبضة من الشجر.

قال ابن كثير: (وذلك أنه كان غضب على زوجته لذنب فعلته وأقسم أن يجلدها مئة، ولما شفاه الله وكانت زوجته كما تقدم مخلصة له في خدمته التامة والرحمة به والشفقة عليه والإحسان إليه، ما رأى أن يكافئها على ذلك بالضرب فأفتاه الله عز وجل أن يأخذ ضغثًا وهو الشمراخ فيه مئة قضيب فيضربها به ضربة واحدة وقد برّت يمينه وخرج من حنثه ووفى بنذره. وهذا من الفرج والمخرج لمن اتقى الله تعالى وأناب إليه. ولهذا قال جل وعلا: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} أي إنه رجّاع منيب).

قلت: ولعمر الله كم سُوِّدَتْ صحف في كتب التفاسير بقصص وحكايات عن ذنب زوجة أيوب معه، كان أولى بتلك الصفحات أن تُتْرَك بيضاء، كيف لا وكثير منها لا يليق بمقام النبوة. ويعجبني هنا ما ذكره القاسمي رحمه الله حيث قال: (وقد رووا هنا آثارًا في المحلوف عليه، لم يصح منها شيء. فالله أعلم به ولا ضرورة لبيانه. إذ القصد الإعلام برحمة أخرى ونعمة ثانية عليه، صلوات الله عليه. وهي الدلالة إلى المخرج من الحنث، برخصة وطريقة سهلة سمحة ترفع الحرج).

قلت: وهذه الطريقة اللطيفة في برّ اليمين عند الحاجة إليها مشروعة في تشريع نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-. ولهذا قال سعيد بن جبير عقب الآية السابقة: (وهي لهذه الأمة لمن حلف على مثل ما حلف عليه أيوب). وقال عطاء: (هي للناس عامة). وإليه ذهب الشافعي وأبو حنيفة، إلى أن من فعل ذلك فقد برّ في يمينه. وأصل ذلك من السنة ما روى


(١) حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (١/ ٣٠٧)، وانظر مسند أبي يعلى (١٠٩٩)، وله شواهد.

<<  <  ج: ص:  >  >>