للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لا يشغَلُهُ شَيْءٌ عَنْ شَيْءٍ، وهو معروف في كلام العرب، يُقال: لأَتَفَرَّغَنَّ لك، وما بِه شُغْلٌ، يقول: لآخُذَنّكَ على غِرَّتِكَ).

والثقلان: الجن والإنس. كما في المسند وسنن أبي داود والنسائي من حديث البراء -في عذاب القبر- مرفوعًا: [فيضربه ضربة أخرى، فيصيح صيحة يسمعه كل شيء إلا الثقلين] (١). وفي رواية: (إلا الجنّ والإنس).

وقوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}. قال ابن جرير: (فبأيّ نعم ربكما معشر الثقلين التي أنعمها عليكم، من ثوابه أهل طاعته، وعقابه أهل معصيته تكذّبان؟ ).

وقوله تعالى: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ}. هو من باب التحدّي وإثبات الذل والعجز للعباد يوم يُحاط بهم في الحشر لمشهد الحساب.

قال ابن كثير: (أي: لا تستطيعون هَرَبًا من أمر اللَّه وقدَره، بل هو محيطٌ بكم، لا تقدرون على التخلُّص من حُكمِهِ، ولا النفوذِ عن حكمه فيكم، أينما ذهبتم أُحِيطَ بكم. وهذا في مقام المحشر، الملائكة مُحدِقَةٌ بالخلائق، سبعُ صفوفٍ من كل جانب، فلا يقدِرُ أحدٌ على الذهاب {إِلَّا بِسُلْطَانٍ}، أي: إلا بأمر اللَّه، {يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠) كَلَّا لَا وَزَرَ (١١) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} [القيامة: ١٠ - ١٢]. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس: ٢٧]).

قلت: ولقد تَخَبَّطَ بعض المتشدقين اليوم من اعتبار الآية نصرًا للعلم الحديث بكشوفاته واختراعاته المثيرة، فصرَفوا معنى: {لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} أي بالعلم، ووجهوا المعنى إلى أنه بالعلم يمكن اختراق آفاق الفضاء وفهم حركة الكواكب والمجرات.

وهذا ليس موضوع البحث في الآية، بل هو يناقضها ويعارضها حين ظنوا أنهم بالعلم خرجوا عن أقطار السماوات والأرض، بل هم بكل ما أوتوا من قوة وعلم داخل أقطار السماوات والأرض. والآية حديث عن خبر المشهد في الحشر يوم القيامة، وقد اجتمع الجن والإنس أمام ربهم في صعيد واحد، فهو اليوم يتحداهم أن يفلتوا من قبضته بعدما انتشروا في أرجاء الدنيا يخوضون ويفسدون.


(١) حديث صحيح. أخرجه أحمد (٤/ ٢٨٧ - ٢٨٨)، وأبو داود (٢/ ٢٨١)، والحاكم (١/ ٣٧ - ٤٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>