للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وقد بَانَ لكَ من هذا أن عدم القدرة على النكاح نقص، وإنما الفضل في كونها موجودة، ثم يمنعها إما بمجاهدة كعيسى، أو بكفاية من الله ﷿ كيحيى ، ثم هي في حق من قدر عليها، وقام بالواجب فيها، ولم تشغله عن ربه درجة عليا، وهي درجة نبينا الذي لم يشغله كثرتهن عن عبادة ربه، بل زاده ذلك عبادة بتحصينهن وقيامه عليهن وإكسابه لهن وهدايته إياهن، بل قد صرح أنها ليست من حظوظ دنياه هو، وإن كانت من حظوظ دنيا غيره، فقال: "حُبب إليَّ من دنياكم" (١) هذا لفظه. والمقصود أنه مدح ليحيى بأنه حصور ليس أنه لا يأتي النساء، بل معناه كما قاله هو وغيره: أنه معصوم عن الفواحش والقاذورات، ولا يمنع ذلك من تزويجه بالنساء الحلال وغشيانهن وإيلادهن، بل قد يفهم وجود النسل له من دعاء زكريا المتقدم حيث قال: ﴿هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً﴾ كأنه قال: ولدًا له ذرية ونسل وعقب، والله أعلم] (٢).

وقوله: ﴿وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ هذه بشارة ثانية بنبوة يحيى بعد البشارة بولادته، وهي أعلى من الأولى، [كقوله لأم موسى: ﴿إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [القصص: ٧]] (٣)

فلما تحقق زكريا هذه البشارة، أخذ يتعجب من وجود الولد منه بعد الكبر ﴿قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ﴾ أي: الملك ﴿كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ أي: هكذا أمر الله عظيم، لا يعجزه شيء، ولا يتعاظمه أمر،

﴿قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً﴾ أي: علامة أستدل بها على وجود الولد مني ﴿قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا﴾ أي: إشارة لا تستطيع النطق مع أنك سوي صحيح، كما في قوله: ﴿ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا﴾ [مريم: ١٠] ثم أمر بكثرة الذكر والتكبير والتسبيح في هذه الحال، فقال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ﴾. وسيأتي طرف آخر في بسط هذا المقام في أول سورة مريم، إن شاء الله تعالى.

﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (٤٢) يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤)﴾.

هذا إخبار من الله تعالى بما خاطبت به الملائكة مريم عن أمر الله لهم بذلك، أن الله قد اصطفاها؛ أي اختارها لكثرة عبادتها وزهادتها وشرفها وطهارتها من الأكدار والوساوس، واصطفاها ثانيًا مرة بعد مرة لجلالتها على نساء العالمين.

قال عبد الرزاق: أنبأنا معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ قال: كان أبو هريرة يحدث عن رسول الله : "خير نساء ركبن الإبل نساء قريش، أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده، ولم تركب مريم بنت عمران بعيرًا قط" ولم يخرجه من هذا الوجه سوى مسلم، فإنه رواه عن محمد بن رافع وعبد بن حميد، كلاهما عن عبد الرزاق (٤) به.


(١) حديث صحيح تقدم نحوه في بداية تفسير الآية رقم (١٤) من هذه السورة.
(٢) ما بين معقوفين زيادة من (ح) و (حم).
(٣) ما بين معقوفين زيادة من (ح) و (حم).
(٤) صحيح مسلم، فضائل الصحابة، باب من فضائل نساء قريش (ح ٢٠١، ٢٠٢).