للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وقد استدل بعض من ذهب إلى تفضيل الملائكة على البشر بهذه الآية حيث قال: ﴿وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ وليس له في ذلك دلالة، لأنه إنما عطف الملائكة على المسيح، لأن الاستنكاف هو الامتناع، والملائكة أقدر على ذلك من المسيح، فلهذا قال: ﴿وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ ولا يلزم من كونهم أقوى وأقدر على الامتناع أن يكونوا أفضل. وقيل: إنما ذكروا لأنهم اتخذوا آلهة مع الله كما اتخذ المسبيح، فأخبر تعالى أنهم عبيد من عباده وخلق من خلقه، كما قال تعالى: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٢٩)[الأنبياء]، ولهذا قال: ﴿وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا﴾ أي: فيجمعهم إليه يوم القيامة، ويفصل بينهم بحكمه العدل الذي لا يجور فيه، ولا يحيف، ولهذا قال: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾ أي: فيعطيهم من الثواب على قدر أعمالهم الصالحة، ولزيدهم على ذلك من فضله وإحسانه وسعة رحمته وامتنانه.

وقد روى ابن مردويه من طريق بقية، عن إسماعيل بن عبد الله الكندي، عن الأعمش، عن [شقيق، عن عبد الله] (١) مرفوعًا، قال: قال رسول الله : ﴿فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾ قال: أجورهم "أدخلهم الجنة" ﴿وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾ قال: "الشفاعة فيمن وجبت له النار ممن صنع إليهم المعروف في دنياهم" (٢) وهذا إسناد لا يثبت. وإذا روي عن ابن مسعود موقوفًا (٣)، فهو جيد.

﴿وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا﴾ أي: امتنعوا من طاعة الله وعبادته واستكبروا عن ذلك ﴿فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [غافر: ٦٠] أي: صاغرين حقيرين ذليلين كما كانوا ممتنعين مستكبرين.

﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (١٧٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (١٧٥)﴾.

يقول تعالى مخاطبًا جميع الناس ومخبرًا بأنه قد جاءهم منه برهان عظيم، وهو الدليل القاطع للعذر والحجة المزيلة للشبهة، ولهذا قال: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا﴾ أي: ضياء واضحًا على الحق، قال ابن جريج وغيره: وهو القرآن (٤).

﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ﴾ أي: جمعوا بين مقامي العبادة، والتوكل على الله في


(١) كذا في (حم) و (مح) وفي الأصل: "شقيق بن عبد الله" وهو تصحيف.
(٢) في سنده إسماعيل بن عبد الله الكندي ضعيف (ميزان الاعتدال ١/ ٢٣٥)، وضعف إسناده الحافظ ابن كثير.
(٣) أخرجه أبو نعيم من طريق الثوري عن شقيق به موقوفًا (حلية الأولياء ٤/ ١٠٨).
(٤) أخرجه الطبري بسند ضعيف فيه الحسين وهو ابن داود الملقب بسنيد وهو ضعيف.