للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قتادة: هذه الآية ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ﴾ منسوخة بقوله: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (٢٩)(١) [التوبة: ٢٩].

وقوله تعالى: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ﴾ أي: ومن الذين ادعوا لأنفسهم أنهم نصارى يتابعون المسيح ابن مريم وليسوا كذلك، أخذنا عليهم العهود والمواثيق على متابعة الرسول ، ومناصرته، ومؤازرته، واقتفاء آثاره، وعلى الإيمان بكل نبي يرسله الله إلى أهل الأرض، ففعلوا كما فعل اليهود، خالفوا المواثيق، ونقضوا العهود، ولهذا قال تعالى: ﴿فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ أي: فألقينا بينهم العداوة والبغضاء لبعضهم بعضًا، ولا يزالون كذلك إلى قيام الساعة، وكذلك طوائف النصارى على اختلاف أجناسهم لا يزالون متباغضين متعادين يُكفّر بعضهم بعضًا، ويلعن بعضهم بعضًا، فكل فرقة تحرم الأخرى، ولا تدعها تلج معبدها، فالملكانية تكفر اليعقوبية، وكذلك الآخرون، وكذلك النسطورية (٢) والآريوسية، كل طائفة تكفر الأخرى في هذه الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، ثم قال تعالى: ﴿وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ وهذا تهديد ووعيد أكيد للنصارى على ما ارتكبوه من الكذب على الله وعلى رسوله، وما نسبوه إلى الرب ﷿ وتعالى وتقدس عن قولهم علوًا كبيرًا، من جعلهم له صاحبة وولدًا، تعالى الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد.

﴿يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٦)﴾.

يقول تعالى مخبرًا عن نفسه الكريمة أنه قد أرسل رسوله محمدًا بالهدى ودين الحق إلى جميع أهل الأرض: عربهم وعجمهم، أميهم وكتابيهم، وأنه بعثه بالبينات والفرق بين الحق والباطل، فقال تعالى: ﴿يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ أي: يبين ما بدلوه وحرفوه وأولوه، وافتروا على الله فيه، ويسكت عن كثير مما غيّروه ولا فائدة في بيانه.

وقد روى الحاكم في مستدركه من حديث الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس ، قال: من كفر بالرجم فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب قوله: ﴿يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ﴾ فكان الرجم مما أخفوا، ثم قال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه (٣).

ثم أخبر تعالى عن القرآن العظيم


(١) أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح من طريق معمر عن قتادة.
(٢) تقدم التعريف بهذه الفرق.
(٣) أخرجه الحاكم بسنده ومتنه وصححه ووافقه الذهبي (المستدرك ٤/ ٣٥٩).