للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

"إني ذاهب بالهدي فناحره عند البيت" فقال له المقداد بن الأسود: أما والله لا نكون كالملأ من بني إسرائيل إذ قالوا لنبيهم: ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فلما سمعها أصحاب رسول الله تتابعوا على ذلك (١)، وهذا إن كان محفوظًا يوم الحديبية فيحتمل أنه كرر هذه المقالة يومئذٍ كما قاله يوم بدر.

وقوله: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (٢٥)﴾ يعني: لما نكل بنو إسرائيل عن القتال غضب عليهم موسى ، وقال داعيًا عليهم ﴿رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي﴾ أي: ليس أحد يطيعني منهم فيمتثل أمر الله ويجيب إلى ما دعوت إليه إلا أنا وأخي هارون ﴿فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾.

قال العوفي، عن ابن عباس: يعني اقض بيني وبينهم (٢)، وكذا قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس. وكذا قال الضحاك: اقض بيننا وبينهم، وافتح بيننا وبينهم (٣)، وقال غيره: (افرق) افصل بيننا وبينهم (٤)، كما قال الشاعر:

يا رب فافرق بينه وبيني … أشد ما فرقت بين اثنين (٥)

وقوله تعالى: ﴿فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ الآية، لما دعا عليهم موسى حين نكلوا عن الجهاد حكم الله بتحريم دخولها عليهم مدة أربعين سنة فوقعوا في التيه يسيرون دائمًا لا يهتدون للخروج منه وفيه كانت أمور عجيبة وخوارق كثيرة من تظليلهم بالغمام وإنزال المن والسلوى عليهم، ومن إخراج الماء الجاري من صخرة صماء تحمل معهم على دابة، فإذا ضربها موسى بعصاه انفجرت من ذلك الحجر اثنتا عشرة عينًا تجري لكل شعب عين، وغير ذلك من المعجزات التي أيد الله بها موسى بن عمران. وهناك نزلت التوراة وشرعت لهم الأحكام، وعملت قبة العهد ويقال لها: قبة الزمان.

قال يزيد بن هارون، عن أصبغ بن زيد، عن القاسم بن أبي أيوب، عن سعيد بن جبير: سألت ابن عباس عن قوله: ﴿فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ لآية قال: فتاهوا في الأرض أربعين سنة يصبحون كل يوم يسيرون ليس لهم قرار، ثم ظلل عليهم الغمام في التيه، وأنزل عليهم المن والسلوى (٦)، وهذا قطعة من حديث الفتون، ثم كانت وفاة هارون ، ثم بعده بمدة ثلاث سنين وفاة موسى ، وأقام الله فيهم يوشع بن نون ، نبيًا خليفة عن موسى بن عمران، ومات أكثر بني إسرائيل هناك في تلك المدة، ويقال: إنه لم يبق منهم أحد سوى يوشع وكالب، ومن ها هنا قال بعض المفسرين في قوله: ﴿فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ﴾ هذا وقف تام.


(١) سنده صحيح لكنه مرسل.
(٢) أخرجه الطبري بسند ضعيف عن العوفي لكن يتقوى برواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس فقد أخرجه الطبري من هذه الطريق أيضًا.
(٣) أخرجه الطبري بسند ضعيف فيه إبهام شيخ الطبري ويشهد له سابقه.
(٤) قاله الطبري قبل بيت الشعر المذكور.
(٥) ذكره معمر بن المثنى في مجاز القرآن (١/ ١٦٠).
(٦) في سنده أصبَغ بن زيد وهو الجهني الوراق صدوق يغرب (التقريب ص ١١٣).