للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

ليلة الإسراء، وهذه الآية مكية. وقال ههنا: بالغدو، وهو أول النهار، والآصال: جمع أصيل كما أن الأيمان جمع يمين، وأما قوله: ﴿تَضَرُّعًا وَخِيفَةً﴾ أي: اذكر ربك في نفسك رغبة ورهبة وبالقول لا جهرًا، ولهذا قال: ﴿وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ﴾ وهكذا يستحب أن يكون الذكر لا يكون نداءً وجهرًا بليغًا، ولهذا لما سألوا رسول الله فقالوا: أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله ﷿: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ [البقرة: ١٨٦] (١).

وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال: رفع الناس أصواتهم بالدعاء في بعض الأسفار، فقال لهم النبي : "يا أيها الناس اربِعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا إن الذي تدعونه سميع قريب أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته" (٢).

وقد يكون المراد من هذه الآية كما في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (١١٠)[الإسراء] فإن المشركين كانوا إذا سمعوا القرآن سبّوه وسبّوا من أنزله وسبّوا من جاء به، فأمره الله تعالى أن لا يجهر به لئلا ينال منه المشركون ولا يخافت به عن أصحابه فلا يسمعهم، وليتخذ سبيلًا بين الجهر والإسرار، وكذا قال في هذه الآية الكريمة: ﴿وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ﴾.

وقد زعم ابن جرير وقبله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (٣) أن المراد بها أمر السامع للقرآن في حال استماعه بالذكر على هذه الصفة. وهذا بعيد منافٍ للإنصات المأمور به، ثم إن المراد بذلك في الصلاة كما تقدم أو في الصلاة والخطبة، ومعلوم أن الإنصات إذ ذاك أفضل من الذكر باللسان، سواء كان سرًا أو جهرًا، فهذا الذي قالاه لم يتابعا عليه، بل المراد الحضّ على كثرة الذكر من العباد بالغدو والآصال، لئلا يكونوا من الغافلين، ولهذا مدح الملائكة الذين يسبّحون الليل والنهار لا يفترون، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ﴾ الآية، وإنما ذكرهم بهذا ليقتدى بهم في كثرة طاعتهم وعبادتهم، ولهذا شرع لنا السجود ههنا لما ذكر سجودهم لله ﷿، كما جاء في الحديث: "ألا تصفّون كما تصفّ الملائكة عند ربها يتمّون الصفوف الأول فالأول، ويتراصون في الصف" (٤) وهذه أول سجدة في القرآن مما يشرع لتاليها ومستمعها السجود بالإجماع، وقد ورد في حديث رواه ابن ماجه عن أبي الدرداء عن النبي أنه عدّها في سجدات القرآن (٥).

آخر تفسير سورة الأعراف، ولله الحمد والمنّة.


(١) تقدم تخريجه في تفسير سورة البقرة آية ١٨٦.
(٢) تقدم تخريجه في تفسير سورة البقرة آية ١٨٦.
(٣) أخرجه الطبري بسند صحيح من طريق عبد الله بن وهب عن عبد الرحمن بلفظ: "لا يجهر بذلك".
(٤) صحيح مسلم، الصلاة، باب الأمر بالسكون في الصلاة (ح ٤٣٠).
(٥) سنن ابن ماجه، إقامة الصلاة، باب عدد سجود القرآن (ح ١٠٥٦)، وضعفه البوصيري بسبب وجود عثمان بن فائد وهو ضعيف (مصباح الزجاجة ١/ ٣٥٣).