للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

رأى ذلك هاله وأحجم وهاب وهمَّ بالرجوع، وهيهات ولات حين مناص نفذ القدر واستجيبت الدعوة وجاء جبريل على فرس وديق (١) حائل (٢) فمرَّ إلى جانب حصان فرعون فحمحم إليها، واقتحم جبريل البحر فاقتحم الحصان وراءه، ولم يبق فرعون يملك من نفسه شيئًا فتجلد لأمرائه وقال لهم: ليس بنو إسرائيل بأحق بالبحر منا، فاقتَحموا كلُّهم عن آخرهم، وميكائيل في ساقتهم لا يترك منهم أحدًا إلا ألحقه بهم، فلما استوسقوا (٣) فيه وتكاملوا وهمَّ أولهم بالخروج منه أمر الله القدير البحر أن يرتطم عليهم فارتطم عليهم، فلم ينجُ منهم أحد، وجعلت الأمواج ترفعهم وتخفضهم، وتراكمت الأمواج فوق فرعون وغشيته سكرات الموت فقال -وهو كذلك-: ﴿آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ فآمن حيث لا ينفعه الإيمان ﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (٨٥)[غافر].

وهكذا قال الله تعالى في جواب فرعون حين قال ما قال: ﴿آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ﴾ أي: أهذا الوقت تقول وقد عصيت الله قبل هذا فيما بينك وبينه؟ ﴿وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ أي: في الأرض الذين أضلوا الناس ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (٤١)[القصص].

وهذا الذي حكى الله تعالى عن فرعون من قوله هذا في حاله ذلك من أسرار الغيب التي أعلم الله بها رسوله ، ولهذا قال الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس قال: قال رسول الله : "لما قال فرعون: آمنتُ أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل. قال: قال لي جبريل: لو رأيتني وقد أخذت من حال البحر فدسسته في فيه مخافة أن تناله الرحمة" (٤).

ورواه الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم في تفاسيرهم من حديث حماد بن سلمة به، وقال الترمذي: حديث حسن (٥).

وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة، عن عدي بن ثابت، وعطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله : "قال لي جبريل: لو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في فم فرعون مخافة أن تدركه الرحمة" (٦).

وقد رواه أبو عيسى الترمذي أيضًا وابن جرير أيضًا من غير وجه عن شعبة به، فذكر مثله،


(١) هي الفرس الثي تشتهي الفحل (ينظر: النهاية ٥/ ١٩٨).
(٢) حائل: غير حامل.
(٣) أي اجتمعوا.
(٤) أخرجه الإمام أحمد بسنده ومتنه (المسند ٥/ ٣٠ ح ٢٨٢٠)، وضعفه محققوه لضعف علي بن زيد … وقالوا: والأصح وقفه. وله شواهد تقويه كما يليه، واذا صح موقوفًا فإن له حكم الرفع، لأنه من الغيبيات التي أخبر عنها جبريل .
(٥) أخرجه الطبري وابن أبي حاتم والترمذي كلهم من طريق حماد بن سلمة به (سنن الترمذي، تفسير سورة يونس ح ٣١٠٦)، وحسنه الترمذي، ومن الطريق نفسه أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي (المستدرك ١/ ٥٧)، وصححه الحافظ ابن حجر (الكاف الشاف ٢/ ٣٦٨).
(٦) أخرجه الطيالسي بسنده ومتنه (المسند ح ٢٦١٨) وسنده صحيح.