للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

رِزْقُهَا رَغَدًا﴾ أي: هنيئًا سهلًا ﴿مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ﴾ أي: جحدت آلاء الله عليها، وأعظمها بعثة محمد إليهم، كما قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (٢٩)[إبراهيم] ولهذا بدلهم الله بحاليهم الأولين خلافهما، فقال: ﴿فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ﴾ أي: ألبسها وأذاقها الجوع بعد أن كان يجبى إليهم ثمرات كل شيء، ويأتيها رزقها رغدًا من كل مكان، وذلك لمّا استعصوا على رسول الله وأبوا إلا خلافه فدعا عليهم بسبع كسبع يوسف، فأصابتهم سنة أذهبت كل شيء لهم، فأكلوا العلهز (١). وهو وبر البعير يخلط بدمه إذا نحروه.

وقوله: ﴿وَالْخَوْفِ﴾ وذلك أنهم بدلوا بأمنهم خوفًا من رسول الله وأصحابه حين هاجروا إلى المدينة من سطوته وسراياه وجيوشه، وجعل كل ما لهم في دمار وسفال حتى فتحها الله على رسوله ، وذلك بسبب صنيعهم وبغيهم وتكذيبهم الرسول الذي بعثه الله فيهم منهم، وامتن به عليهم في قوله: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ [آل عمران: ١٦٤].

وقوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (١٠) رَسُولًا﴾ الآية [الطلاق]، وقوله: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ إلى قوله: ﴿وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ [البقرة: ١٥١، ١٥٢].

وكما أنه انعكس على الكافرين حالهم فخافوا بعد الأمن، وجاعوا بعد الرغد، فبدَّل الله المؤمنين من بعد خوفهم أمنًا، ورزقهم بعد العيلة، وجعلهم أمراء الناس وحُكَّامهم وسادتهم وقادتهم وأئمتهم، وهذا الذي قلناه من أن هذا المثل ضرب لأهل مكة قاله العوفي عن ابن عباس (٢)، وإليه ذهب مجاهد وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وحكاه مالك عن الزهري (٣).

وقال ابن جرير: حدثني ابن عبد الرحيم البرقي، حدثنا ابن أبي مريم، حدثنا نافع بن يزيد، حدثنا عبد الرحمن بن شريح، أن عبد الكريم بن الحارث الحضرمي حدثه أنه سمع [مِشرح] (٤) بن هاعان يقول: سمعت سُليم بن عِتر يقول: صدرنا من الحج مع حفصة زوج النبي وعثمان محصور بالمدينة، فكانت تسأل عنه ما فعل؟ حتى رأت راكبين فأرسلت إليهما تسألهما فقالا: قتل، فقالت حفصة: والذي نفسي بيده إنها القرية - تعني: المدينة - التي قال الله تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ﴾ قال ابن شريح: وأخبرني عبيد الله بن المغيرة عمن حدثه أنه كان يقول: إنها المدينة (٥).


(١) تقدم تخريجه وصحته في تفسير سورة يوسف آية ٤٦.
(٢) أخرجه الطبري بسند ضعيف من طريق العوفي به، ويتقوى بما يلي.
(٣) قول مجاهد أخرجه الطبري بسند صحيح من طريق ابن أبي نجيح، وقول قتادة أخرجه الطبري بسند صحيح من طريق ابن أبي عروبة، وقول عبد الرحمن بن زيد أخرجه الطبري بسند صحيح من طريق ابن أبي وهب عنه.
(٤) كذا في (ح) و (مح) وتفسير الطبري، وفي الأصل صحف إلى: "شرخ"، وفى (حم): "سرح".
(٥) أخرجه الطبري بسنده ومتنه، وفي سنده مِشرح بن عاهان مقبول كما في (التقريب ص ٥٣٢)، والشق الأخير فيه إبهام شيخ عبد الله بن المغيرة.