وسيرته في البحر وربطته بحبل عندها، فلما كانت ذات يوم دخل عليها من تخافه، فذهبت فوضعته في ذلك التابوت وأرسلته في البحر، وذهلت عن أن تربطه، فذهب مع الماء واحتمله حتى مرَّ به على دار فرعون، فالتقطه الجواري فاحتملنه فذهبن به إلى امرأة فرعون، ولا يدرين ما فيه، وخشين أن يفتتن عليها في فتحه دونها، فلما كشف عنه إذا هو غلام من أحسن الخلق وأجمله وأحلاه وأبهاه، فأوقع الله محبته في قلبها حين نظرت إليه، وذلك لسعادتها وما أراد الله من كرامتها وشقاوة بعلها، ولهذا قال: ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا﴾ الآية.
قال محمد بن إسحاق وغيره: اللام هنا لام العاقبة، لا لام التعليل، لأنهم لم يريدوا بالتقاطه ذلك، ولا شك أن ظاهر اللفظ يقتضي ما قالوه، ولكن إذا نظر إلى معنى السياق، فإنه تبقى اللام للتعليل، لأن معناه أن الله تعالى قيضهم لالتقاطه ليجعله عدوًا لهم وحزنًا فيكون أبلغ في إبطال حذرهم منه، ولهذا قال تعالى: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ﴾.
وقد روي عن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز ﵁ أنه كتب كتابًا إلى قوم من القدرية في تكذيبهم بكتاب الله وبأقداره النافذة في علمه السابق وموسى في علم الله السابق لفرعون عدو وحزن، قال الله تعالى: ﴿وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾ [القصص: ٦] وقلتم أنتم لو شاء فرعون أن يكون لموسى وليًا وناصرًا، والله تعالى يقول: ﴿لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا﴾ الآية.
وقوله تعالى: ﴿وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٩)﴾ يعني: أن فرعون لما رآه هم بقتله خوفًا من أن يكون من بني إسرائيل، فشرعت امرأته آسية بنت مزاحم تخاصم عنه وتذبُّ دونه وتحببه إلى فرعون، فقالت: ﴿قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ﴾ فقال فرعون: أما لكِ فنعم، وأما لي فلا، فكان كذلك، وهداها الله بسببه وأهلكه الله على يديه، وقد تقدم في حديث الفتون في سورة طه (١) هذه القصة بطولها من رواية ابن عباس مرفوعًا عند النسائي وغيره.
وقوله: ﴿عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا﴾ وقد حصل لها ذلك، وهداها الله به وأسكنها الجنة بسببه. وقوله: ﴿أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا﴾ أي: أرادت أن تتخذه ولدًا وتتبناه، وذلك أنه لم يكن لها ولد منه. وقوله تعالى: ﴿وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ أي: لا يدرون ما أراد الله منه بالتقاطهم إياه من الحكمة العظيمة البالغة والحجة القاطعة.
يقول تعالى مخبرًا عن فؤاد أُم موسى حين ذهب ولدها في البحر أنه أصبح فارغًا؛ أي: من كل شيء من أمور الدنيا إلا من موسى، قاله ابن عباس ومجاهد، وعكرمة وسعيد بن جبير وأبو