وقوله: ﴿قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ﴾ أي: ابتدأ خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئًا مذكورًا ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ﴾ أي: العقول والإدراك ﴿قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ﴾ أي: قلما تستعملون هذه القوى التي أنعم الله بها عليكم في طاعته وامتثال أوامره وترك زواجره.
﴿قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ أي: بثكم ونشركم في أقطار الأرض وأرجائها مع اختلاف ألسنتكم في لغاتكم وألوانكم وحلاكم وأشكالكم وصوركم ﴿وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ أي: تجمعون بعد هذا التفرق والشتات، يجمعكم كما فرقكم ويعيدكم كما بدأكم.
ثم قال مخبرًا عن الكفار المنكرين للمعاد المستبعدين وقوعه: ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٢٥)﴾ أي: متى يقع هذا الذي تخبرنا بكونه من الاجتماع بعد هذا التفرق؟
﴿قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ أي: لا يعلم وقت ذلك على التعيين إلا الله ﷿، لكنه أمرني أن أخبركم أن هذا كائن وواقع لا محالة فاحذروه ﴿وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ أي: وإنما علي البلاغ وقد أديته إليكم.
قال الله تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أي: لما قامت القيامة وشاهدها الكفار ورأوا أن الأمر كان قريبًا لأن كل ما هو آت آت وإن طال زمنه، فلما وقع ما كذبوا به ساءهم ذلك لما يعلمون ما لهم هناك من الشر أي: فأحاط بهم ذلك وجاءهم من أمر الله ما لم يكن لهم في بال ولا حساب ﴿وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (٤٨)﴾ [الزمر] ولهذا يقال لهم على وجه التقريع والتوبيخ: ﴿هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ﴾ أي: تستعجلون.
﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (٢٨) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٢٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (٣٠)﴾.
يقول تعالى: ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهؤلاء المشركين بالله الجاحدين لنعمه ﴿أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ أي: خلِّصوا أنفسكم، فإنه لا منقذ لكم من الله إلا التوبة والإنابة والرجوع إلى دينه، ولا ينفعكم وقوع ما تتمنون لنا من العذاب والنكال، فسواء عذبنا الله أو رحمنا فلا مناص لكم من نكاله وعذابه الأليم الواقع بكم.
ثم قال: ﴿قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا﴾ أي: آمنا برب العالمين الرحمن الرحيم، وعليه توكلنا في جميع أمورنا كما قال: ﴿فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾ [هود: ١٢٣] ولهذا قال: ﴿فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ أي: منا ومنكم ولمن تكون العاقبة في الدنيا والآخرة؟
ثم قال: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا﴾ أي: ذاهبًا في الأرض إلى أسفل فلا يُنال بالفؤوس الحِداد ولا السواعد الشداد. والغائر: عكس النابع ولهذا قال: ﴿فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ﴾ أي: نابع سائح جار على وجه الأرض؛ أي: لا يقدر على ذلك إلا الله ﷿، فمن فضله وكرمه أن أنبع لكم المياه وأجراها في سائر أقطار الأرض، بحسب ما يحتاج العباد إليه من القلة والكثرة.
فله الحمد والمنة. آخر تفسير سورة الملك.