للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

هكذا ذكر محمد بن إسحاق في السيرة أن الذي قتل أصحاب الأخدود هو: ذو نواس واسمه زرعة، ويسمى في زمان مملكته بيوسف، وهو: ابن بيان أسعد أبي كريب، وهو تُبَّع الذي غزا المدينة وكسى الكعبة واستصحب معه حبرين من يهود المدينة، فكان تهوَّد من تهوَّد من أهل اليمن على يديهما كما ذكره ابن إسحاق مبسوطًا، فقتل ذو نواس في غداة واحدة في الأخدود عشرين ألفًا ولم ينج منهم سوى رجل واحد يقال له: دوس ذو ثعلبان، ذهب فارسًا وطردوا وراءه فلم يقدروا عليه فذهب إلى قيصر ملك الشام فكتب إلى النجاشي ملك الحبشة، فأرسل معه جيشًا من نصارى الحبشة يقدمهم أرياط وأبرهة فاستنقذوا اليمن من أيدي اليهود، وذهب ذو نواس هاربًا فلجج في البحر فغرق، واستمر ملك الحبشة في أيدي النصارى سبعين سنة، ثم استنقذه سيف بن ذي يزن الحميري من أيدي النصارى لما استجاش بكسرى ملك الفرس، فأرسل معه من في السجون فكانوا قريبًا من سبعمائة، ففتح بهم اليمن ورجع الملك إلى حمير، وسنذكر طرفًا من ذلك إن شاء الله في تفسير سورة ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (١)[الفيل].

وقال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أنه حدث أن رجلًا من أهل نجران كان في زمان عمر بن الخطاب حفر خربة من خرب نجران لبعض حاجته، فوجد عبد الله بن التامر تحت دفن فيها قاعدًا واضعًا يده على ضربة في رأسه ممسكًا عليها بيده، فإذا أخذت يده عنها تفجرت دمًا، وإذا أرسلت يده ردت عليها فأمسكت دمها، وفي يده خاتم مكتوب فيه ربي الله، فكتب فيه إلى عمر بن الخطاب يخبره بأمره، فكتب عمر إليهم أن أقروه على حاله، وردُّوا عليه الدفن الذي كان عليه ففعلوا (١).

وقد قال أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا : حدثنا أبو بلال الأشعري، حدثنا إبراهيم بن محمد، عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، حدثني بعض أهل العلم أن أبا موسى لما افتتح أصبهان وجد حائطًا من حيطان المدينة قد سقط، فبناه فسقط ثم بناه فسقط، فقيل له: إن تحته رجلًا صالحًا، فحفر الأساس فوجد فيه رجلًا قائمًا معه سيف فيه مكتوب: أنا الحارث بن مضاض نقمت على أصحاب الأخدود، فاستخرجه أبو موسى وبنى الحائط فثبت.

(قلت): هو الحارث بن مضاض بن عمرو بن مضاض بن عمرو الجُرهمي، أحد ملوك جُرهم الذين ولوا أمر الكعبة بعد ولد ثابت بن إسماعيل بن إبراهيم، وولد الحارث هذا هو عمرو بن الحارث بن مضاض هو آخر ملوك جرهم بمكة لما أخرجتهم خزاعة وأجلوهم إلى اليمن، وهو القائل في شعره الذي قال ابن هشام (٢) إنه أول شعر قالته العرب:

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا … أنيس ولم يسمر بمكة سامر

بلى نحن كنا أهلها فأبادنا … صروف الليالي والجدود العواثر

وهذا يقتضي أن هذه القصة كانت قديمًا بعد زمان إسماعيل بقرب من خمسمائة سنة أو نحوها، وما ذكره ابن إسحاق يقتضي أن قصتهم كانت في زمن الفترة التي بين عيسى ومحمد عليهما من الله السلام وهو أشبه، والله أعلم.


(١) المصدر السابق ١/ ٣٦، وسنده منقطع.
(٢) المصدر السابق ١/ ١١٥.