للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ثم قال تعالى: ﴿وَمَنْ عَادَ﴾ أي: إلى الربا ففعله بعد بلوغه نهي الله عنه، فقد استوجب العقوبة، وقامت عليه الحجّة، ولهذا قال: ﴿فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ وقد قال أبو داود: حدثنا يحيى أبو داود، حدثنا يحيى بن معين، أخبرنا عبد الله بن رجاء المكي، عن عبد الله بن عثمان خثيم، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: لما نزلت ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ قال رسول الله : "من لم يذر المخابرة فليؤذن بحرب من الله ورسوله" (١). ورواه الحاكم في مستدركه من حديث ابن خثيم، وقال: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه (٢).

وإنما حرمت المخابرة وهي المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض والمزابنة: وهي اشتراء الرطب في رؤوس النخل وبالتمر على وجه الأرض، والمحاقلة وهي اشتراء الحبّ في سنبله في الحقل بالحبّ على وجه الأرض، إنما حُرِّمت هذه الأشياء وما شاكلها [حسمًا لمادة الربا] (٣)، لأنه لا يعلم التساوي بين الشيئين قبل الجفاف، ولهذا قال الفقهاء: الجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة، ومن هذا حرموا أشياء بما فهموا من تضييق المسالك المفضية إلى الربا والوسائل الموصلة إليه، وتفاوت نظرهم بحسب ما وهب الله لكل منهم من العلم، وقد قال تعالى: ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ [يوسف: ٧٦] وباب الربا من أشكل الأبواب على كثير من أهل العلم، وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب : ثلاث وددت أن رسول الله عهد إلينا فيهن عهدًا ننتهي إليه: الجد، والكلالة، وأبواب من أبواب الربا (٤) - يعني بذلك بعض المسائل التي فيها شائبة الربا - والشريعة شاهدة بأن كل حرام فالوسيلة إليه مثله، لأن ما أفضى إلى الحرام حرام، كما أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

وقد ثبت في الصحيحين عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله يقول: "إن الحلال بيِّن والحرام بيِّن، وبين ذلك أمور مشتبهات، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه (٥). وفي السنن عن الحسن بن علي قال: سمعت رسول الله يقول: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" (٦) وفي الحديث الآخر: "الإثم ما حاك في القلب وتردَّدت فيه النفس، وكرهت أن يطلع عليه الناس" وفي رواية: "استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك" (٧).


(١) سنن أبي داود، البيوع، باب في المخابرة (ح ٣٤٠٦)، وقد عرّف الحافظ ابن كثير: المخابرة. ولم يذكره الألباني في صحيح سنن أبي داود.
(٢) المستدرك ٢/ ٢٨٥ - ٢٨٦، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(٣) ما بين معقوفين سقط من الأصل واستدرك من (عف) و (ح) و (حم) و (م).
(٤) متفق عليه أخرجه البخاري في صحيحه، الأشربة، باب ما جاء في أن الخمر من خامر العقل من الشراب (ح ٥٥٨٨)، ومسلم في صحيحه، التفسير (ح ٣٠٣٢).
(٥) صحيح البخاري، الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه (ح ٥٢)، وصحيح مسلم، كتاب المساقاة (ح ١٥٩٩).
(٦) أخرجه الترمذي، السنن، صفة القيامة (ح ٢٦٥٠)، وصححه أحمد شاكر، والألباني في صحيح سنن الترمذي (ح ٢٠٤٥).
(٧) أخرج الإمام أحمد بسند ضعيف من حديث وابصة بن معبد الأسدي: البر ما انشرح له صدرك، والإثم ما =