للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وثبت في الصحيحين من رواية سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن عبد الله بن كثير، عن أبي المنهال، عن ابن عباس، قال: قدم النبي المدينة وهم يسلفون في الثمار السنتين والثلاث، فقال رسول الله : "من أسلف فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم" (١).

وقوله: ﴿فَاكْتُبُوهُ﴾ أمر منه تعالى بالكتابة لتوثقة والحفظ، فإن قيل: فقد ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله : "إنا أُمة أُمية لا نكتب ولا نحسب" (٢) فما الجمع بينه وبين الأمر بالكتابة؟ فالجواب: أن الدين من حيث هو غير مفتقر إلى كتابة أصلًا، لأن كتاب الله قد سهل الله ويسر حفظه على الناس، والسنن أيضًا محفوظة عن رسول الله ، والذي أمر الله بكتابته إنما هو أشياء جزئية تقع بين الناس، فأمروا أمر إرشاد لا أمر إيجاب كما ذهب إليه بعضهم.

قال ابن جريج: من أدان فليكتب، ومن ابتاع فليشهد (٣).

وقال قتادة: ذُكر لنا أن أبا سليمان المرعشي كان رجلًا صحب كعبًا، فقال ذات يوم لأصحابه: هل تعلمون (٤) مظلومًا دعا ربه فلم يستجب له؟ فقالوا: وكيف يكون ذلك؟ قال: رجل باع بيعًا إلى أجل فلم يشهد ولم يكتب فلما حلّ ماله جحده صاحبه، فدعا ربه فلم يستجب له، لأنه قد عصى ربه (٥).

وقال أبو سعيد والشعبي والربيع بن أنس والحسن وابن جريج وابن زيد وغيرهم: كان ذلك واجبًا، ثم نسخ بقوله: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ﴾ (٦) [البقرة: ٢٨٣]. والدليل على ذلك أيضًا الحديث الذي حكي عن شرع من قبلنا مقررًا في شرعنا ولم ينكر عدم الكتابة والإشهاد. قال الإمام أحمد: حدثنا يونس بن محمد، حدثنا ليث، عن جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحمن بن هرمز، عن أبي هريرة، عن رسول الله ، أنه ذكر أن رجلًا من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار، فقال: ائتني بشهداء أشهدهم. قال: كفى بالله شهيدًا، قال: ائتني بكفيل قال: كفى بالله كفيلًا. قال: صدقت، فدفعها إلى أجل مسمى فخرج في البحر فقضى حاجته ثم التمس مركبًا يقدم عليه للأجل الذي أجله فلم يجد مركبًا فأخذ خشبة فنقرها، فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة معها إلى صاحبها، ثم زجَّج موضعها، ثم أتى بها البحر، ثم قال: اللَّهم إنك قد علمت أني استسلفت فلانًا ألف دينار، فسألني كفيلًا، فقلت:


(١) صحيح البخاري، السلم، باب السلم في كيل معلوم ح ٢٢٤٠)، وصحيح مسلم، المساقاة (ح ١٦٠٤).
(٢) صحيح البخاري، الصوم، باب قول النبي : "لا نكتب ولا نحسب" (ح ١٩١٣)، وصحيح مسلم، الصيام، باب وجوب صوم رمضان (ح ١٥).
(٣) أخرجه الطبري من طريق الحسين بن داود وهو: سنيد عن حجاج عنه، وسنيد ضعيف.
(٤) في الأصل: "لغلمون" وهو تصحيف.
(٥) أخرجه الطبري من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، ولم يصرح قتادة باسم شيخه.
(٦) قول الشعبي أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح عنه، وقول الحسن أخرجه الطبري بسند حسن عنه، وقول عبد الرحمن بن زيد أخرجه الطبري بسند صحيح عنه.