للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الثَّاني: أنَّه يُقامُ فيه العَدلُ كما قالَ تَعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: ٤٧].

والثَّالثُ: أنَّه يُقامُ فيه الأشهادُ، {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ} [غافر: ٥١]، فلهذا سُمِّيَ يَومَ القيامَةِ.

قال اللهُ تَعالى: {أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} يَعني بَعدَ هذا الإنذارِ والتَّهديدِ والوَعيدِ: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} وهذه الجُملَةُ أيضًا تُفيدُ التَّهديدَ بِلا شَكٍّ، يَعني: اعمَلوا ما شِئتم مِنَ الخَيرِ أو مِنَ الشَّرِّ، {إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.

إذن {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} ليست إِباحةً أنَّ الإنسانَ يَعملُ ما شاءَ كما يَدَّعي هَؤلاءِ أنَّ الحُرِّيَّةَ أن تَعمَلَ ما شِئتَ، عندَ هؤلاءِ الكُفَّارِ أنَّ الإنسانَ حُرٌّ في دينِه، يَدينُ بما شاءَ، حُرٌّ في أخلاقِه، يَتَخَلَّقُ بما شاءَ، حُرٌّ بأعمالِه يَعمَلُ ما شاءَ، هكذا عِندَهم، ونحن نَقولُ: لا، الحُرِّيَّةُ المُطلَقَةُ هي الرِّقُّ المُطلَقُ؛ لأنَّك إذا تَحَرَّرت من قُيودِ الشَّرع تَقَيَّدت بقُيودِ الشَّرِّ، ولهذا يَقولُ ابنُ القَيِّمِ في النُّونيَّةِ (١):

هَرَبوا مِنَ الرِّقِّ الَّذي خُلِقوا له ... وبُلوا بِرِقِّ النَّفسِ والشَّيطانِ

الرِّقُّ الَّذي خُلِقنا له هو عِبادَةُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ وقوله: "وبُلوا" يَعني: ابتُلوا.

فصاروا عَبيدًا لأنفُسِهم والشَّياطينَ. فَرُّوا من رِقِّهم للهِ إلى رِقِّهم للهَوى والشَّيطانِ.

فنَقولُ: إنَّ قَولَه: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} ليس إطلاقًا بمَعنى ليس إِباحَةً، ولكنَّه تَهديدٌ، وهو أُسلوبٌ عَربيٌّ مُبينٌ منذُ نَزَلَ القُرآنُ وإلى يَومِنا هذا، ولهذا أَكَّدَه بقَولِه:


(١) النونية (ص: ٣٠٨).

<<  <   >  >>